فلسطين المحتلة- قُدس الإخبارية: أكتب للشباب الذين لم يعايشوا الانتفاضة الأولى لصغر سنهم أو لأنهم لم يكونوا قد ولدوا بعد ، وأكتب للكبار الذين لم يكونوا حاضرين فيها إما لأنهم آثروا النأي بأنفسهم عنها آنذاك تجنبا ً للمعاناة أو لأنهم لم يكونوا في الوطن بل خارجه لأسباب شتى. وأكتب لكل هؤلاء لأنني لاحظت بعض الخلط على صفحات التواصل الاجتماعي لأننا نعيش هذه الأيام ذكرى الأحداث التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة ومن ثم تطورها وتحولها إلى حالة جماهيرية على طول أرض الوطن.
الانتفاضة لم تكن بفعل فاعل
بداية أقول بأن الإنتفاضة وخلافا لكل الإدعاءات ومحاولات التخريج والإستنباط لم تكن حدثا ً قد أُعد له من قبل ولم تكن بفعل فاعل بل كانت ردا ً عفويا احتجاجا على حادث السير الذي أودى بحياة أربعة عمال من مخيم جباليا إثر اصطدام شاحنة عسكرية إسرائيلية بالسيارة التي كانت تُقلهم ولقناعة الناس بأنه كان بإمكان سائق الشاحنة العسكرية تفادي وقوع الحادث.
خرجت الجماهير الغاضبة تحتج ضد هذا القتل فكان رد فعل جيش الاحتلال مزيدا من الاستهتار بأرواح المواطنين الفلسطينيين وبدأت قافلة الشهداء في التساقط وبدأت دائرة الاحتجاج تتسع في القطاع ثم امتدت لبعض مدن الضفة وسرعان ما شملت معظمها باستثناء مدينة الخليل التي تأخر انضمامها بعض الوقت وأذكر أنني حين مازحت الأخ المرحوم داود القواسمي متسائلا ً لماذا لا تتحرك الخليل ، أجابني قائلا ً : " إحنا طَلِقنا بتأخر بس لما ييجي بجي حامي " ...وهكذا كان ! ( وكان يقصد بالطلق ما يسبق الولادة).
مؤتمر قمة عمان وتراجع القضية
فالملاحظة الأولى التي أود أن أشير إليها هي عفوية الانتفاضة وكونها شعبية جماهيرية تحولت تدريجيا ً من موضعية إلى حالة عمت كافة أرجاء الوطن. ومع أنها بدأت عفوية وتلقائية إلا أنها كانت تعبيرا ً عن حالة الاحتقان والغضب التي كانت تتراكم في النفوس نتيجة عوامل القمع والظلم والقهر الاحتلالي التي اختزنتها النفوس ونتيجة الشعور بالترك والإهمال من قبل العالم العربي الذي بدا وكأنه بدأ يهمش القضية الفلسطينية ويهمش قيادة الشعب الفلسطيني التي باتت معزولة في تونس لا يفتح لها أي بلد عربي أبوابه وإذا فتحها مكرها تعامل مع القيادة الفلسطينية بأدنى مستوى من البروتوكول كما حدث في مؤتمر القمة بعمان والذي انعقد في 8 /11/ 1987 أي قبل شهر من الانتفاضة إذ تم استقبال الرئيس الراحل ياسر عرفات عند وصوله إلى عمان من قبل وزير غير ذي أهمية في الحكومة الأردنية ولم تتم دعوة عرفات إلى حفل العشاء الذي أقامه الملك حسين للملوك والرؤساء العرب الذي جاؤوا لحضور المؤتمر إلا بعد أن أصر الرئيس العراقي الشهيد صدام حسين على أنه لن يحضر العشاء ما لم تتم دعوة الرئيس عرفات ، كما أن القضية الفلسطينية تراجعت إلى البند السادس والسابع من قرارات المؤتمر بينما احتلت الحرب العراقية الإيرانية البند الأول وبعدها قضايا تهم دول الخليج
ومع أن الانتفاضة بدأت تلقائية عفوية إلا أنها وبعد قرابة شهر بدأت تستقطب اهتمام القوى والفصائل الوطنية التي بادرت إلى تشكيل القيادة الوطنية الموحدة والتي بدأت ترسم من خلال بيانات / نداءات الانتفاضة الطريق للعمل الجماهيري الشعبي الذي تجاوب بشكل كامل مع نداء الانتفاضة والتزم بتوجيهات القيادة الموحدة سواء من حيث تنظيم الحياة اليومية للمواطنين وملء الفراغ الناجم عن التخلي عن خدمات الاحتلال أو الخدمات التي قام الاحتلال بوقفها كالتعليم ، أو الفعاليات النضالية الميدانية أو ساعات الإضراب والعمل.
" قاوم "... ودور فصائل م.ت.ف
ولا بد هنا من الإشارة الى الدور الفعال الذي قامت به فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل من خلال القيادة الوطنية الموحدة " قاوم" وفي الخارج من خلال الدعم المادي والتواصل اليومي مع انتفاضة الداخل من خلال نقاط وأشخاص اتصال ما زال بعضهم في الظل حتى الساعة. ولقد كان للشهيد الراحل أبو جهاد الدور الرئيسي الفاعل والمؤثر من خلال العمل مع الداخل على مدار الساعة ، والذي أطلق مقولته الشهيرة " لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة ".
ولا شك بأن الانتفاضة الجماهيرية حازت على احترام العالم وأثارت دهشة القريب والبعيد لأنها أثبتت للعالم بأن الشعب الفلسطيني هو شعب حي موجود وأنه مستعد لتقديم الثمن من أجل نيل حريته واستقلاله ، وأنه شعب حضاري يستطيع أن يمارس المقاومة الشعبية اللاعنفية وبكل انضباط وأصبح أطفال الحجارة أغنية على كل لسان وكان أبطال الانتفاضة شيوخا ً وعجائز رجالا ً ونساء شبان وفتيات من كل الفئات العمرية ومن كل شرائح المجتمع كل بقدر ما يستطيع ولم يتخل إلا فئة هامشية التزمت الصمت أو البيوت. ومن المؤكد أن لاعنفية الانتفاضة كانت السبب الرئيسي في نجاحها واستمرارها وتأثيرها على الرأي العام الدولي بل وحتى الإسرائيلي. فلم يستطع أحد أن يتهمها أو يصمها بالإرهاب بل رأى فيها القاصي والداني وسيلة مشروعة للتحرر من الاحتلال . وهذه اللاعنفية والشمولية الجماهيرية هي ما ميزت الانتفاضة الأولى عما حدث بعد عام 2000 وأسماه البعض بالانتفاضة الثانية . وفي رأيي الشخصي لم تكن هناك سوى انتفاضة واحدة هي الانتفاضة الأولى وان ما بعد ذلك لم يكن سوى مواجهات عسكرية غير محسوبة العواقب وغير متكافئة .
وإذا كان أول ما نسجله للانتفاضة الأولى هو سلميتها ولاعنفيتها وفرضها احترامها على العالم ، فإن إنجازاتها على الصعيد الداخلي لم تكن بأقل أهمية من ذلك.
لقد نجحت الانتفاضة في تعميق روح التضامن الاجتماعي بين الناس الذين كانوا يتقاسمون لقمة العيش. ونجحت من خلال بث روح الوعي والحس الوطني وتفعيل الوحدات المسماة بالقوات الضاربة إلى محاربة الظواهر السلبية في المجتمع فتم تنظيف العديد من التجمعات السكانية من ظاهرة المخدرات والعملاء. وعلى سبيل المثال كان مخيم شعفاط من ضواحي القدس بؤرة للمخدرات يأتيها من يشاء عربا ً أو يهودا ً للتزود بما يريدون ولكن هذا المخيم سرعان ما تم تنظيفه تماما من مروجي المخدرات ومستخدميها وأصبح قدوة للعديد من المناطق التي حذت حذوه ، وكذلك ظاهرة العملاء واللصوص وغيرهم من المجرمين المدنيين . لقد تحولنا إلى مجتمع فضيلة وأخلاق يفتخر به. كما نجحت الانتفاضة في تنمية روح التحرر من الحاجة لمنتجات الاحتلال وبات الاقتصاد المنزلي هدفا ً للعمل عليه من خلال تشجيع تربية الحيوانات المنزلية كالدجاج والأرانب وزراعة النباتات المنزلية . كما تم إيجاد البدائل للخدمات التي قام الاحتلال بوقفها كإغلاق المدارس.
العصيان المدني ببيت ساحور
ومن أبرز أحداث الإنتفاضة ما تم من حركة عصيان مدني في بلدة بيت ساحور شرق مدينة بيت لحم حيث كان سكانها في موقع متقدم من الوعي اللاعنفي فقاموا بالتجمع وإشعال النار وناشدوا الجميع بحرق هوياتهم كخطوة نحو العصيان المدني وفعلوا ذلك، ولكن هذه الخطوة الرائدة لم تنجح بالتعميم في كل المناطق وظلت محصورة في منطقة بيت ساحور.
ليس بالإمكان في هذه العجالة الحديث عن كل الظواهر الإيجابية والسلبية التي رافقت الانتفاضة ولكنني وددت أن أشير إلى الإيجابيات الرائعة التي حققها شعبنا والتي أثبت من خلالها قدرته على انتزاع حقوقه.
ولكن العديد من السلبيات التي قضت عليها الانتفاضة عادت لتطل علينا من جديد وعلى رأس تلك السلبيات ظاهرة المخدرات ، والجرائم الاجتماعية كالسرقة والقتل والعمالة. ونحن وفي ذكرى الانتفاضة جديرون للمطالبة بالعودة إلى العوامل الإيجابية التي أفرزتها الانتفاضة. فنحن في ظل تفشي الاستيطان وتعثر المساعي للحل السياسي وفشلها المطلق، لمطالبون أكثر من أي وقت مضى بإعادة إحياء نهج المقاومة الشعبية السلمية مع الالتزام المطلق بالابتعاد عن العنف الدموي.
إن حالة الاحتقان التي نشهدها اليوم في الشارع الفلسطيني نتيجة تفشي الاستيطان والعنف الاستيطاني وحالات القمع والقتل اليومي واليأس والإحباط نتيجة لانعدام أفق سياسي يبشر الناس بأن الفرج قادم، كفيلة بأن تُعيد الذاكرة إلى الظرف الذي كان سائدًا عشية الانتفاضة الأولى وإمكانية تفجر الوضع من جديد ولربما بشكل آخر لا يستطيع أحد توقعه.