فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: منذ الأمس أجلس وحيدا، أحاول أن استجمع أبجدية الحروف كاملة دون نقصان حتى استطيع أن أصف ما أريد الكتابة عنه، أن أتحدث، أن أكتب، أن أرسم الصورة التي يستحق في وصفه، علَّني أتمكن من الحديث عن رجل بحجم وطن، ولربما أكبر من وطن، فهو من حمل الوطن في قلبه إلى جانب خطيبته، وسلاحه على كتفه، ومضى يبحث عن وطن ليرحل عنا جميعا فيرتقي إلى المجد شهيدا يحلق في السماء.
مع طلعة كل فجر من العاشر من كانون الأول في كل عام، ومنذ عام 1992، تستقبل قرية عنزا قضاء جنين هذا التاريخ بالزغاريد حتى تزف البطل إلى مثواه الأخير، في باطن الأرض وإلى العالم الآخر، ليصبح رفيقا لله في السماء بعد أن ترك رفاقه على الأرض، فهو من صدق الله فصدقه وعده.
عصام براهمة، إبن قرية عنزا من مواليد 5/5/1963، مؤسس مجموعات عشاق الشهادة الذراع العسكري لحركة الجهاد الاسلامي في الضفة الغربية لتصبح أول نواة عسكرية تابعة للحركة وأول قائد عسكري لها في الضفة المحتلة.
قارع العدو في العديد من الساحات ونازل العدو في منازل عدة، اعتقل أكثر من مرة، ليخرج في كل مرة أشد وأصلب من ذي قبل، يخرج حاملا سلاحه مقسما أن يذيق العدو العذاب ألوانا ليشارك في عملية اغتياله "موشيه يعلون" أكبر قائد عسكري بجيش الاحتلال بعد الوزير.
عصام، رجل ككل الرجال لا يختلف عنهم شيئا سوى أنه كان صادقا في حبه لوطنه، كنت ترى الوطن بين الندوب المنتشرة على يديه، ومن عينيه تشرق شمس الحرية التي يستظل بنورها الوطن الذي أحب، في عقله تسكن القدس مهد الأديان والحضارات، وقلبه مليئ بالحكايات الجميلة عن الحب والحرب والجمال، ولسانه لا يتحدث إلا بما تحب أن تسمع عن الرجال الرجال.
هو رجل في زمن عز فيه الرجال، كيف لا، وهو كما قلت، حمل سلاحه على كتفه يبحث عن الوطن في ثنايا الموت، اختار طريقه ويعرفه عز المعرفة، طريقا مليئا بالأشواك والعثرات، طريقا صعبا نهايته معروفة إما النصر أو الشهادة.
رسم طريقه أمامه، متزودا بالإيمان العميق أن القوة هي لغة الحوار مع العدو، متسلحا بالكرامة التي تخلى عنهم الكثيرين دون مقابل، طريق رسمه بالدم والروح وحب الحياة، ليبني من الموت نصرا لا يقهر.
اجتمعت قوات العدو كلها، بقواتها المسماة نخبة، تتبعهم وحدات حرس الحدود، يريدون النيل من البطل، ولكن هيهات منا الذلة، حمل سلاحه البسيط المصنوع محليا، رفض أن يستسلم، بادرهم بإطلاق النار وبقي يقاوم والوقت يمضي ببطء شديد، اشتبك معهم ولا كلمة فصل للوقت يستطيع قولها في حضرة العظماء.
أرهبهم وخافوا، كان صامدا ثابتا كجبل، حاصروا المنزل الذي يقطنه، أطلقوا النيران من مدافعهم فاشتعلت الأرض حمما وبراكين ولكنها كانت بردا وسلاما على جسده الطاهر وروحه العظيمة، صمد وصبر، حاولوا اقتحام المنزل معتقدين أنه قد استشهد، ولكن الروح هي من تقاتل وليس الجسد، بادرهم بإطلاق النار مجددا، جن جننونهم، أملائكة نقاتل؟ أم هو مارد من نار فلا يحترق؟.
كان يستطيع الهرب، ولكن هذه هي معركته التي لطالما انتظارها، اختبأ من لهيب النيران وحين هدأت عاد إلى المنزل المحاصر حتى يتم مهمته على أكمل وجه ويلقى الله، عاد ولم يبقى معه سوى مسدس بسيط وبضع رصاصات، وفي رأسه القاعدة القائلة "كل رصاصة برأس، ولا مجال للخطأ".
قتل عددا من جنودهم، استشاطوا غضبا أكثر وأكثر ليأمر "موشيه يعلون" الطائرات التي حطت في السهل القريب أن تقصف المنزل وتهدمه فوقه، فبدأت الطائرات عملها تلقي ما بجوفها على جسده الطاهر فيبقى الجسد مسجى تحت الدمار وتصعد الروح إلى بارئها تحلق في سماء الوطن.
قتلوه، وزغرد الأهالي حتى لا يشعر العدو أنه قد انتصر، وانسحبوا خوفا من غضبهم، كانوا قد اعتقدوا أنهم قد أنهوا مهمتهم التي جاؤوا من أجلها، ولكن قد نسوا أن عصام فكرة والفكرة لا تموت، تناسوا أن عصام قد زرع ألف ألف عصام في أقرانه ومن أتوا بعدهم ليصبح منارة تستنير بها الأجيال.
أصبح قبر عصام محجا لمن يريد الوطن، يذهب إليه يلقي التحية ويمضي... رحل عصام عنا جسدا، وبقي روحا وفكرا... رحل ولكن الأرض باقية، الحجر والشجر باقون، ونحن أيضا باقون ما بقي الزعتر والزيتون لنقارع العدو في كل الساحات، في الزنازين، في الشوارع والحارات، في كل مكان يوجد فيه...