قبل أن نخوض في تفاصيل "عملية 17 أكتوبر" البطولية، العملية الفدائية النوعية التي نفذتها مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001، اذ قامت بتصفية وزير سياحة الاحتلال "رحبعام زئيفي"، وتعد الأولى والوحيدة للأسف حتى الآن طوال سنوات الصراع مع كيان الاحتلال، علينا أولا ، وقبل كل شئ، أن نوجه تحية الاعتزاز والوفاء لعقول وسواعد الفرسان الذين نفذوا حكم الشعب الفلسطيني، تحية واجبة وموصولة لعائلاتهم المناضلة أيضا التي تحملت -وما زالت تتحمل- عبء الاعتقال والغياب القسري لأحبائها من موقع المسؤولية والوفاء وكي لا تسقط راية المقاومة.
قبل خمسة عشرة عامًا، نجحت مجموعة فدائية باصطياد الوزير العنصري رحبعام زئيفي صاحب الباع الطويل في تأسيس نظرية الترانسفير (ترحيل الفلسطينيين) من أرضهم، والشخصية الإسرائيلية المسؤولة عن تشريد وقتل عائلات فلسطينية وعشرات من أبناء شعبنا.
وجاءت العملية كما هو معروف، كرد ثوري وعقاب من طراز خاص على الجريمة التي ارتكبها الاحتلال حين أقدمت طائراته على اغتيال الأمين عام للجبهة الشعبية، في حينه، الشهيد "أبو علي مصطفى" أواخر آب من عام 2001.
الفرسان، عاهد أبو غلمة، مجدي الريماوي، حمدي قرعان، باسل الأسمر، ومحمد الريماوي، إختاروا طريق تحرير فلسطين منذ أن انخرطوا عن وعي في صفوف المقاومة، وجعلوا من فلسطين وطنًا وبوصلة وهدفًا ثابتًا، ووحيدا لحياتهم، قبل يوم السابع عشر من أكتوبر من عام 2001، لقد عرفوا أنه طريق صعب، طريق التضحية والنضال في مواجهة المحتل العنصري، واختاروا طريق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تعهد أمينها العام أن يكون الرد على جريمة كيان الاحتلال بالنار، ولا شئ إلا النار.
لن تجد من يختلف على أن هذه العملية البطولية هزت الكيان، وأضافت قيمة نوعية للمقاومة الفلسطينية في تاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وشكلت رداً نوعياً من حيث قدرة المقاومة على الردع وإلحاق خسارة كبيرة على مستوى نظرية الأمن والتفوق الصهيوني في هذا المجال.
هذه القيمة، تعززت لدى قطاع واسع من الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته وأطيافه السياسية وأذرع العمل المقاوم في مجتمعنا الفلسطيني، إلا أن القيمة السياسة والنضالية لم تجد طريقها على مستوى المؤسسة الفلسطينية وقيادتها، بل اختارت الأخيرة أن تقف خصمًا لهذه العملية وجرى ضربها ومحاولة تفريغها منذ اللحظة الأولى على يد أجهزة السلطة الفلسطينية التي امتثلت للشروط الأمريكية والإسرائيلية.
اهتز الكيان الإسرائيلي، لكن بدأت الملاحقة الأمنية لفرسان عملية 17 أكتوبر، لأن كل فعل له رد فعل، حملات طالت الفرسان وعائلاتهم وأصدقائهم ورفاقهم، زج بعضهم في سجون إسرائيلية وفلسطينية على حد سواء، تعدى الأمر ذلك إلى درجة عرضهم على محاكم فلسطينية (صورية و مصورة طبعا)، وذلك من أجل إصدار أحكام بالسجن الفعلي ما بين سنة الى 18 سنوات، وكأنهم حين اختاروا الدفاع عن أرضهم خرقوا قوانين وطنية وارتكبوا جرماً استحقوا عليه العقاب!، إلا أن ضمير الشعب الفلسطيني لم ولن يقبل محاكمة واعتقال فلسطيني يقاوم جيش المحتل وقطعان مستوطنيه.
لم يتوقف "المسلسل" هنا بل تعدى ذلك لاستخدام فدائيي 17 أكتوبر كورقة مساومة تحقق مطالب القيادة الرسمية الخاصة كفك الحصار عن مقر المقاطعة، وإبرام اتفاق شفوي بين القيادة الرسمية في حينها، وبين الاحتلال برعاية أمريكية – بريطانية، قضي الأمر بنقلهم إلى سجن أريحا المشؤوم و وضعهم تحت الوصاية الأمريكية – البريطانية، واستمرت المهزلة 4 سنوات كان فيها الفرسان يقبعون داخل هذا السجن ويعاملوا كمعاملة المعتقلين من حيث إجراءات السجن (من تسجيل أسماء والتفتيش بالماكينات الإلكترونية، والكاميرات، وغيرها من الإجراءات المتبعة في أي سجن).
لقد فقدت السلطة الفلسطينية القدرة حتى على مواصلة اعتقالهم، وجاء اقتحام سجن أريحا في تاريخ 14/3/2006 من قبل قوات الاحتلال وانسحاب الوصاية الأمريكية – البريطانية واعتقال الفرسان، ثم تحويلهم لمراكز تحقيق ذات ظروف قاسية وفيما بعد حكمهم في محاكم عسكرية إسرائيلية لا شرعية، وهم حتى اليوم رهن الاعتقال في سجون الاحتلال ويواجهون الاحتلال في الأسر يوميا على مدار الساعة. هذا فخر لهم ولرفاقهم وعائلاتهم...وهذا عار سوف يطارد من شاركوا في جريمة اعتقالهم..وهذه مسؤولية المقاومة لتحريرهم اليوم من سجون الاحتلال.
ما يجعلنا نكتب اليوم عن "عملية" وقعت قبل خمسة عشر عاماً، هو تذكير انفسنا، أن 17 أكتوبر لن تكون مجرد "حدث عادي" في تاريخنا، بل علامة فارقة في مسيرة المقاومة، ونموذجا وبديلا متكاملا، على المستوى السياسي وعلى مستوى المقاومة ايضا.
ما أحاول قوله هنا ومن الموقع الوطني، أن الدفاع عن قيمة هذا الفعل المقاوم واستحضار هذه النماذج البطولية المقاومة هو واجب مستمر من أجل ترسيخها في الذاكرة الشعبية الفلسطينية والعربية والانسانية باعتبارها جزء من تاريخ وكفاح شعبنا ومحطة في نهج المقاومة الفلسطينية، في ذات الوقت ندعو الى استخلاص العبر والدروس.
لا تنفصل عملية أكتوبر البطولية عن انتفاضة القدس التي اشتعلت في أكتوبر العام الماضي، وإن ما قدمه الشهيد مصباح أبو صبيح من نموذج ثوري وقبله العديد من الأسرى والأسيرات، الشهداء والشهيدات الذين يصادف في هذا اليوم تحديداً ذكرى خمسة شهداء منهم وهم: الشهيد متعز عويسات والشهيد فضل القواسمة والشهيد محمد الفقيه والشهيد طارق النتشة وأخيرا الشهيدة الطفلة بيان اعسيلة، امتدادًا لهذا النهج الوطني الثوري، وعلى طريق الذين خاضوا العمليات الفدائية التي هدفها التحرير والحرية، وكل ذلك يأتي في سياق واحد، وهدف واحد، هذا هو النهج الثوري والفلسفة الثورية التي يجب الدفاع عنها اليوم وحمايتها من محاولات التصفية والتشويه.
للأسف، يوجد لدينا نهج سياسي فلسطيني آخر، لكنه مهزوم، يقف على النقيض من نهج وثقافة المقاومة والتحرر الوطني، ويقدم المساومات والتنازلات السياسية كل يوم، على حساب دماء الشهداء، وآلام الأسرى والجرحى والمعذبين، في الوطن والشتات، ومن قدموا الغالي والنفيس فداءً لحرية الشعب والوطن.
هذا النهج التقليدي يفتقر الى الحد الأدنى من الإرادة السياسية والكفاءة، يواصل سياسة التنسيق الأمني ويمنع عن المقاومة مقومات وركائز الصمود التي تمكنها من التطور والاستمرار وحماية الحقوق والثوابت الوطنية.