تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لانطلاق الانتفاضة الفلسطينية، التى أطلق عليها البعض "الانتفاضة الثالثة"، لأنها تأتى بعد انتفاضتين الأولى في العام 1987، والثانية في العام 2000، وسماه البعض "انتفاضة السكاكين"، لأنها تميزت بقيام الشباب الفلسطيني بعمليات طعن متكررة لجنود ومستوطنين صهاينة، وأطلق عليها اعلام المقاومة "انتفاضة القدس"، لأن بشائر هذه الانتفاضة بدأت في مدينة القدس، التى شهدت عده اعتداءات صهيونية متكررة، ففي 9 سبتمبر 2015، صدر عن وزير الحرب الصهيوني قرار بحظر مصاطب العلم والرباط في الأقصى، وفي 14 سبتمبر اقتحم وزير الزراعة الصهيوني أوري آرئيل المسجد الأقصى بصحبة أربعين صهيونياً، واقتحمت وحدات خاصة وعناصر المستعربين باحات المسجد، وفي 17 سبتمبر، قام عشرات من شبيبة حزب الليكود باقتحام المسجد الأقصى. تلك الاجراءات أعقبتها تصريح رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتانياهو أكد فيها سعيهم الدؤوب لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا.
في جدلية المصطلح هبة أم انتفاضة؟!
بعد عام من انطلاق الانتفاضة لا يزال الجدل محتدماً حول تصنيفها، هل هي انتفاضة أم هبة؟! وتباينت المسميات فوصفت بـ"الانتفاضة الثالثة" و"انتفاضة السكاكين" و"انتفاضة القدس". لم يلتفت الشباب لهذا الجدل العقيم حول تصنيف عملياتهم، فقد كان المشهد الفلسطيني كفيلاً بالرد على هذا الجدل: • اتسعت رقعة المواجهات مع قوات العدو الصهيوني، لتشمل مناطق كبيرة في الضفة الغربية المحتلة، ولم تقتصر على مدينة القدس. • استمرت ديمومة الاشتباكات مع العدو الصهيوني على مدار عام، وبأشكال متعددة "الطعن بالسكين"، و"الدهس بالسيارات"، و"اطلاق الرصاص". تخللها هدوء لأيام أو أسابيع، في ذلك يقول المحلل العسكري الصهيوني، اليكس فيشمان: أن ما يجري يثبت بأن الهدوء في مناطق الضفة هدوء وهمي يتبعه لهيب يدفع الشباب الفلسطيني للتضحية وتنفيذ عمليات. • شكّل الطابع الفردي غير المُنظّم لعمليات الطعن والدهس العمود الفقري للانتفاضة، الذي كشف عن عدم وجود قيادة مركزية، أو رأس للانتفاضة، وهذا يؤكد أن انطلاقة الانتفاضة جاءت من خارج الأطر الحزبية والفصائلية.
جيل ما بعد "أوسلو" اندلعت شرارة الانتفاضة على أيدي جيل فلسطيني جديد من الشباب تتراوح اعمارهم بين 14 سنة و25 سنة، ولد بعد التوقيع على اتفاقات "أوسلو" (1993)، جيل لا يعرف الحسابات السياسية، جيل أشرف على تثقيفة لجنة ثلاثية "أمريكية ــ صهيونية ــ فلسطينية"، حاولت ايهام الجيل الشاب أن "التسوية السلمية" هي الحل للقضية الفلسطينية، وأن الأمن الاقتصادي والترفيهي هو السبيل للعيش بكرامة. لقد افشلت الانتفاضة، جميع المحاولات الرامية لتحويل جيل ما بعد "أوسلو" إلى جيل "التسوية".
وهذا ما دفع ألون بن دافيد، الخبير العسكري الصهيوني في القناة الصهيونية العاشرة، إلى القول في مقال تحليلي بصحيفة "معاريف": إن مرور نصف عام على موجة العمليات الفلسطينية أعطى (الإسرائيليين) درساً يفيد بأنه على جانبي الخط الأخضر نشأت أجيال جديدة، يمكن تسميتها "الفلسطيني الجديد". ويضيف بن دافيد، "الجيل الذي يتصدر العمليات الحالية يختلف عن جيل الانتفاضتين السابقتين، فمن التحقيق مع نحو 90 شاباً من منفذي تلك العمليات اعتقلوا أحياء في خلال الشهور الستة الماضية نلحظ أننا أمام جيل لم يمر علينا من قبل، جيل لا يتذكر قساوة الانتفاضتين السابقتين، جيل لم يسافر خارج المنطقة التي يقطن فيها، ويعيش في الشبكة وعبرها يتعلم ويتعرف على العالم، جيل يخرج عملية التسوية والمصالحة مع (إسرائيل) من حساباته، ولا يهتم إلا بشيء واحد هو حقوقه الإنسانية والآدمية، والتي ينظر إليها بأنها مسلوبة من قبل (إسرائيل) وعليه أن يدافع عنها ويسترجعها".
الانتفاضة اليتيمة ولدت الانتفاضة الفلسطينية يتيمة، لا تجد من يتبناها، في ظل واقع عربي مأزوم وغارق في الخلافات العربية العربية، والخلافات العربية الاقليمية، واستفحال المشاكل والازمات الداخلية العربية. وفي ظل نظام رسمي عربي يهرول في اتجاه العدو الصهيوني، ويسعى لنجدة نتنياهو، ويتدخل لوأد الانتفاضة. وسلطة حكم ذاتي إداري محدود، دورها الوظيفي شركة "خدمة أمن صهيونية"، فقد كشف عباس ولأول مرة عن دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية في محاولات وقف عمليات الطعن التي اتسمت بها الانتفاضة. وقال في مقابلة مع القناة الثانية في التلفزيون الصهيوني.
في أخر شهر آذار/ مارس 2016؛ إن «قوات الأمن لدينا تدخل المدارس وتقوم بتفتيش حقائب التلاميذ بحثا عن سكاكين لمنع عمليات الطعن، أنت لا تعرف ذلك». وحسب اعترافه فإن الأجهزة الأمنية تمكنت من مصادرة أكثر من 70 سكينا. واستطرد: «أخذنا السكاكين من التلاميذ وقلنا لهم: هذا خطأ. نحن لا نريد أن تقتلوا ولا أن تُقتلوا. نريدكم أحياء، ونريد أن يعيش الطرف الآخر كذلك». وتابع القول «عندما يذهب طفل حاملاً سكيناً لتنفيذ عملية فإنه لا يستشير والديه ولا شقيقه، ولا يمكن أن تجد شخصاً عاقلاً يشجعه على تنفيذ عملية كهذه». أما الفصائل الفلسطينية فقد أصدرت مئات البيانات الورقية التى تؤكد على أنها مع دعم وإسناد الانتفاضة وتطوير أدواتها حتى تحقق أهدافها. ولكن على أرض الواقع لا تستطيع تصعيدها لعده أسباب لا مجال لذكرها.
عند الشباب الخبر اليقين! اعتقد أن هذه الانتفاضة لم تولد في شهر تشرين أول/ أكتوبر 2015، بل ظهرت شرارتها عندما شن العدو الصهيوني عدوانه الأخيرعلى قطاع غزة، يومها زادت وتيرة التنسيق الأمني "المقدس" [كما يصفه حاكم المقاطعة] مع العدو الصهيوني، واستطاعت سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحجيم المشاركة الشعبية، ومنع وصول الشبان إلى الحواجز لمواجهة العدو الصهيوني، ولعبت السلطة بجدارة دور الوكيل الأمنى الحصري.
وأقر بذلك حاكم المقاطعة بالقول، "ما تقوم به الأجهزة الأمنية من إجراءات يتم بأمر مني"، وقال إن "التنسيق الأمني مع الاحتلال قائم". وأضاف: "أن سياسته قائمة على منع توريط الفلسطينيين في حروب لا يقدر عليها". ولأن حاكم المقاطعة لا يؤمن بمشروع المقاومة أو الانتفاضة، فــ"الحلّ يجب أن يكون سياسياً وبالطرق السلمية". هذا الحاكم الذي ينطبق عليه قول الشاعر مظفر النواب: "يا رب كفى حكاما مثقوبين".
لم يلتفت الشباب لهذه الخزعبلات، وعلمتهم حروب غزة الثلاثة (2008 و2009)، (2012)، (2014)، أن الجبهة الداخلية الصهيونية قابلة للاصابة أكثر من أي وقت مضى. ومن الممكن اصابتها بـ"السكين" أو بـ"الرصاص".
يقول المحلل العسكري الصهيوني، اليكس فيشمان،إنّ السكاكين التي طعنت (الإسرائيليين)، نجحت في الكشف عن الحقيقة المؤلمة أمام الأجهزة (الإسرائيلية) وهي البطن الضعيفة لدولة (إسرائيل)، على حدّ قوله. ولفت إلى أنّ الجبهة الداخليّة (الإسرائيليّة) قابلة للإصابة أكثر ممّا اعتقدنا، فالحديث لا يدور فقط عن الخوف الذي تسببت به السكاكين (للإسرائيليين) بشكلٍ كاملٍ، وتأثير هذا على مجريات الحياة ومعنوياتهم وحسب، بل أيضًا الخوف الذي عكسه رؤساء الأجهزة الأمنية من انكشاف نقاط الضعف في الجاهزيّة (الإسرائيلية) للجبهة الداخلية.
وفي نهاية المطاف، أطرح السؤال التالي، على قوى المقاومة والشخصيات والفاعليات الفلسطينية: إلى متى ستظل الانتفاضة "يتيمة" لا تجد من يتبناها؟!