شبكة قدس الإخبارية

لأن سعيدًا فريدٌ من نوعه..

مريم جنى نابوت

فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: لأني ما زلت أؤمن بأن مَن يُقتل من قبل جيش الاحتلال هو ليس مجرد رقم، وأعرف تماماً أن الشاب الأردني الذي استشهد اليوم الجمعة، لم يكن مجرد رقم لأخيه، لوالده، لصديقه، أو حتى لمديره...

سعيد عمرو شاب أردني الجنسية، جاء إلى فلسطين يوم أمس متمسكًا بتلك الأمنية التي لطالما تمنّاها وأراد تجسديها للواقع. أنا لا أعرف سعيد، ولكنني أشعر بالغصّة التي يشعر بها أهله وزملاءه في هذا الحين.

سعيد قد لا يكون فريدًا من نوعه لحلمه بزيارة فلسطين، والقدس خاصة، فالجميع يحلم بذلك، حتى الفلسطينيون الذين يسكنون في فلسطين أو ما باتت تعرف بالضفة الغربية، إنما ما كان يميّز سعيد وجعله بالفعل فريد من نوعه هو كونه من الذين وضعوا جهود كبيرة بتحقيق الحلم إلى حقيقة، أراد زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه يوم الجمعة قبل أن يفعل أي أمر آخر.

أراد أن يرى بعينيه كيف وما هي أجواء العيد في فلسطين، لذا قام بالسفر لفلسطين قبل فوات عيد الأضحى، جاء يوم الخميس، اليوم الرابع لعيد الأضحى المبارك.

أراد الذهاب هناك لأنه لا يريد أن يراها على التلفاز كباقي الأردنيين أو فلسطينيي الأردن الذين يعتقدون أن فلسطين ما هي إلا جنودًا إسرائيليين، جداراً عازلاً، وحواجز.

أراد أن يثبت لنفسه بأن هناك حياة في فلسطين، هناك أطفال يلهون على جانب الطريق، هناك آخرون يبيعون الحلوى من أجل الحياة، هناك بائع القهوة الذي يعدّها كل يوم بعد صلاة الفجر قبل الخروج لشوارع المدينة، هناك الضرير الذي يبيع المياه بجانب إشارة المرور تحت أشعة الشمس، هناك رسّام يتعامل بالدولار ويرسمك بوقت قياسي، هناك ذاك المصوّر الذي بإمكانه تصويرك صورة واستلامها فوراً، هناك بائع البالونات الذي يحاول إثارة الأطفال لجعل أمهاتهم تشتري البالون المفضّل لديهم، هناك ذلك البائع الذي يقف أيضاً بجانب باب العامود في القدس يمسك جيداً أفعى حقيقية طويلة، وعلى قيد الحياة في يد، وببغاء في اليد الثانية، ينادي من هم من محبي الحيوانات ويودّون التقاط صور وهم حاملين تلك الأفعى غير السامة أو الببغاء.

وهناك العديد من التفاصيل الصغيرة الذي أراد سعيد رؤيتها، شعورها، وممارستها في فلسطين التي على الأغلب لطالما سمع عنها من أجداده عندما كانوا يذهبون من السلط للقدس، ومن هناك ليافا مروراً بغزّة قبل الذهاب لصور اللبنانية والحدود السورية ثم العودة للأردن بأيام معدودة من أجل سياحة أو تنزّه، أو حتى للمتاجرة.

سعيد أراد تحقيق حلمه بزيارة فلسطين، والصلاة في مسجد الأقصى، لقد استيقظ مبكراً يوم الجمعة، شرب قهوته الصباحية على شرفة الفندق، هاتف أهله صباحاً، حدّثهم عن تفاصيل سفره من الحدود الأردنية إلى نقاط تفتيش الاحتلال، ثم الحدود الفلسطينية.

لم يتمالك نفسه إذ قال "المسافة يا أمي لا تتعدى الساعتين من عتبة بيتنا في الأردن للفندق الذي أجلس فيه الآن! ولكن استغرقتُ أكثر من 8 ساعات للوصول لفلسطين، جلسنا في باص ننتظر تحركّه لكن دون جدوى؛ كون تحكّم الجنود الإسرائيليين فيه اعتماداً على مزاجهم، متى يأتي على بالهم العمل ومتى على بالهم أخذ وقت راحة..." ويكمل قائلاً: "أمي، أنا ذاهب اليوم للصلاة في مسجد الأقصى، ذاهبٌ إلى قبة الصخرة أيضاً! سأتصور وأرسل لك الصور فور حصولي على الإنترنت. أمي، هل تصدقين بأن ما حلمت فيه سيتحقق؟ سأرى قبة الصخرة أمي؟ سألمسها، وأصلي تحتها. سأدعو لكي أمي، هل تريدين دعوى معينة؟" يغلق سعيد مكالمته بعد حديث طويل، يرتدي ملابسه ويسارع بالذهاب للقدس للالتحاق بالمصليين قبل فوات الصلاة.

فور وصوله للقدس، يشتم رائحة الياسمين، رائحة كعك القدس على عربة مع البيض المسلوق والفلافل يقف متأملاً ثم يمضي قدماً. يمشي قليلاً، ثم يركض فور سماعه للآذان، ينزل درجات باب العامود، على وشك دخول البلدة القديمة للقدس، يراه جندي يصغره سناً، يرى ابتسامة سغيد من قلبه لشفتيه، لا يعجبه الأمر، يمسك رشّاشه، ويضغط على الزناد، فيقع سعيد أرضاً، دون تحقيق أمنيته التي بدأت ولم تصل لنهاية صلاته في المسجد، ودون دعوته لأمه الدعوات التي طلبتها منه...

لمن يستفسر عن سبب طريقة كتابتي للمقال بهذه الطريقة، فما هو إلا بسبب غصّة ما زلت أشعر بها. أعرف تماماً أن يد واحدة ليس بإمكانها التصفيق. لذلك من خلال هذا المقال والذي أتخذه منبراً أقول بأنني لم أفقد الأمل بعد بصحافتنا الفلسطينية المحلية ولا حتى العربية أو العالمية. أعرف تماماً ما هي إمكانيات الصحافيين وما هي الجهود التي من الممكن مثابرتها في سبيل توصيل الرسالة السياسية الفلسطينية بشكل أفضل، وأقوى، ومباشر. الصحافيون في فلسطين كثيرون، كثيرون لمدى لا يمكن حصرهم، لذلك لو قام كل صحفي بأخذ أي خبر استشهاد شاب أو شابة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، ووضع الجهد الكافي لجعل الخبر ليس بمجرد حدث صغير يحدث كل يوم، ليتغير الكثير. فكثرة الذين يستشهدون لا يعني أبداً بأن الأمر عادي، وإن كنت تعلم أنت نفسك الذي تقرأ هذا المقال ذلك، تعلم تماماً بأن بإمكانك أيضاً فعل تغيير ولو بسيط بنشر الأخبار بطرق مختلفة عن الطرق التي تتبعها وسائل الإعلام المحلية، الطرق التقليدية المملة التي لا تجعل أحد يذكر خبر استشهاد سعيد، أو غيره ممن استشهدوا. استشهد سعيد ورسّخ صورة فلسطين محصورة بجدار عازل، جندي إسرائيلي، ورشّاش على بوابة المسجد الأقصى. ويبقى الأمل...