فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: يوم أن يصبح أحدنا شهيدًا أو أسيرًا، فإنه يخرج من ظلّ عائلته ويصبح ظلّا لنا جميعًا، “إحنا مقتنعين إنو الشهيد مش ابننا من يوم ما صار شهيد، هو ابن الشعب وملك الشعب وملك الناس”. يبدو ما قاله بسام السدر والد الشهيد باسل السدر صادقًا حتمًا، ليس لأنّ الشهيد يكسر حيّزه الذاتيّ ويرمي هوّيته الفردية وراء ظهره فحسب، بل لأنّه يغوي شهيدًا جديدًا بالذهاب إلى المكان المجهول الذي تبعثر فيه هو، كما يقول فيصل دراج.
كلّ ما أعرفه، هنا، أنّ ثمّة ستة شباب معتقلين في سجون السلطة منذ شهر نيسان الماضي. وما أعرفه أيضًا أن الشهيد أو الأسير ليس بحاجة إلى الكشف أمامنا عن هوّية المكان أو المعنى الذي ذهب إليه، والذي أفضى إلى استشهاده أو اعتقاله كي نعلن انتماءنا له، “فليس في مكان الشهيد المجهول أحجية، لأن الشعوب لا تولد واعية، وإنما تقترب من وعي لن تصله إلا عن طريق الشهداء والحفاظ عليهم”.
وما أعرفه أيضًا أن أولئك الستة هم صورتنا المعكوسة على مرايانا التي لا يمكن أن نشيح بنظرنا عنها؛ مهما كانت خلفية الصورة وادعاءاتها وسياقاتها. الآن، نحن أمام ستة شبان يتحايلون على أجسادهم وجوعهم لقاءَ الحرية. إنهّم يتصالحون مع فكرة فناء أجسادهم والتضحية بها لأبعد حدّ. أمّا نحن، فمخيّرون بين أن نصنع ثقبًا في زنازينهم أو أن ندع الخاطف يصنع كوّةً في آخر جدراننا ويشيّد مزيدًا من الزنازين، ويكون دمنا قربانَ ولائه للمستعمِر.
لذلك، السؤال الآن ليس حول ما قبل تاريخ التاسع من نيسان، بقدر ما هو بعده ومآلاته. لسنا بحاجة لمساءلة باسل الأعرج ورفاقه حول حقيقة ما جرى في فترة اختفائهم، بل نحن بحاجة لأن نختبر ذاتنا أمام الذات السجّانة التي تدّعي أنها تمسك بمقود “حمايتهم”. أمّا من يحرّكه فضوله لمعرفة إن كان الاختفاء قسريًا أو طوعيًا كي يصنّف انتماءه ويبدأ في عقد محاكماته العلنية للشباب، فهو كمن “يفقأ عينيه، ثمّ يثبّت جوهرتين مكانهما، فلا يرى”.
في الحقيقة، يكفي لهؤلاء الستة أن يكونوا في مكانٍ ليس بأمينٍ على ذاكراتهم وأوسدتهم كي نضع قضيتهم على أكتافنا ونمضي بها، لكن دون أن نعلن براءتنا من أي فعل نضالي كانوا ربما قد أقدموا عليه. ما يهمّنا الآن أن باسل الأعرج ومحمد حرب وسيف الإدريسي وهيثم السياج ومحمد السلامين وعلي دار الشيح يتعاملون مع أجسادهم كـ”حصان طروادة” أو “جدران الخزّان”، بعد ما ضاقت بهم السبل. إنّهم حتمًا “رجال في الشمس”. أمّا نحن، فلسنا أهلًا لتلقينهم محاضرات عمّا كان يجدر بهم أن يفعلوا أو ما لا يفعلوا ما قبل التاسع من نيسان، أو أن نفاضل بين موقعهم كـ”مثقفين” أو “فدائيين”.
[caption id="attachment_99572" align="aligncenter" width="436"] خلال مظاهرة برام الله للمطالبة بالإفراج عن الشبان الستة[/caption]يكفي أيضًا هنا أن نستعيد احتجاز السلطات الصهيونية لـ جثامين 14 شهيدًا قضوا في الهبّة الأخيرة، كي نوصل الحبل السري بين أولئك الشهداء والشبان الستة المضربين عن الطعام. الاحتجاز واحد، وأثره واحد أيضًا، فكما ارتفعت نداءات “حرّروا الجثامين”، علا صوت “الحرية للمضربين الستة”، انطلاقًا من أن ثلاجات الشهداء لا يمكن أن تكون مثواهم الدائم، وكذلك زنازين الشباب الستة لا يمكن أن تكون مستقرّهم الدائم، بل وحدها ذاكرة الجماهير يمكن لها أن تستوعب ذلك الدور.
“تركناه في الخارج لمدة 24 ساعة كي يذوب، ولكن ذلك لم يساعد. اضطررنا إلى غسله مرتين بماء ساخن لنذيب الثلج عنه، وهذا أيضاً لم يساعدنا. لقد كان متجمداً كصخرة”، “كشفت الغطاء عن وجهه. وضعت يدي على جبينه. كان جبينه جليدًا. كان جثمانه بصورة يرثى لها، لم أتمالك نفسي. أعدت الغطاء عليه، صرخت بملء فمي عن قهر يسكن في جوفي منذ ستة أشهر .
لم أسمح لأمه لأن تراه كي لا تصاب بصدمة”، ” قتل أحمد أبو شعبان واعتقل لمدة 124 يوما في ثلاجات الأسر الإسرائيلية، حين عاد لأحضان عائلته مجددا، لم يحظَ بجنازة شهيد على الطريقة الفلسطينية. لم تحظ والدته بدور أم الشهيد.. أحمد سلم في منتصف الليل حينما كانت غالبية الناس تغطّ في نومها. تحضر ليوم مقاومة جديد أو تحلم بغد أفضل. دفن في الليل الحالك. حضر تشييعه 14 بدلاً من 50، لم يسمح لذويه بتشييعه في مقبرة الأسباط، وطوقت المقبرة لمنع استراق النظر من محبيه”، “بعد استلامه، كانت ساقاه متقوستين إلى الأعلى. لم يكن هناك أي مجال لدفنه. تركناه يذوب قليلا. دفناه لأن إكرام الميت دفنه”.
هذه بعض من شهادات أهالي الشهداء المفرج عن جثامينهم، والتي تبيّن كيف تشكّل السلطات الصهيونية طقوس الحزن على الشهيد، تسلمّه في قالب من الثلج، وتشترط عدم تشريحه ودفنه ليلاً بعدد قليل من المشيعين، ظنًّا منها أنها العقوبة القصوى لأهالي الشهداء الذين يفتحون حجرات قلبهم على مصراعيها لأبنائهم، بعيدًا عن تلك الشروط. هذه أيضًا هي حال الشبان الستّة المضربين عن الطعام لليوم الرابع على التوالي، وإن اختلف السياق قليلًا. مُنعت عنهم الزيارات والاتصال بعوائلهم، كما تمّ نقلهم إلى زنازين منفرّدة لمدة 21 يومًا، كوسيلة للضغط عليهم لفكّ إضرابهم عن الطعام الذي يعني بالدرجة الأولى انقلابًا على الدور الوظيفي الذي تقوم به السلطة.
اختار الأعرج الذي أصيب بداء السكري في سجون السلطة ويعاني أصلًا من حصوة في الكلى، والإدريسي المصاب بمرض في القلب، ورفاقهما ألا تكون أجسادهم مجرّد مادة أو امتحان بيولوجي وغريزي لهم، بل رسالة بحد ذاتها، تمامًا كما فعل من قبلهم خضر عدنان وهناء شلبي ومحمد القيق وبلال كايد وعايد الهريمي، وكما يفعل الآن مالك القاضي والشقيقان محمد ومحمود البلبول. ما نعرفه أنه حينما يصل المرء إلى هذا القرار، يعني أنّه لم يعد يرى الإجابة إلّا في جسده؛ إجابة حتمًا لن يلقي الخاطف بالًا لها، وهو الذي امتهن أجساد كثير من الفلسطينيين؛ مثلما فعل مؤخّرًا مع أحمد أبو حلاوة، وكأنّ ثمّة تسابقًا محمومًا بينها وبين سلطة الاستعمار الصهيوني على طرد الأجساد غير المرغوب بها ماديًّا أو معنويًّا، فلا ضير لديها في أن تجد صورة موازيّة لذلك الجسد العاري المضرج بدمائه في إحدى ضواحي القدس.
“يجب أن تدقّوا زيّ السجن على جسدي بالمسامير لأرتديه”، كانت هذه كلمات أحد السجناء الإيرلنديين في السجون البريطانية عام 1976، بعدما حولوه من سجين سياسي إلى جنائي، وهو الأمر الذي يبدو مماثلاً للشبان الستة الذين يقبعون في سجن بيتونيا مع السجناء على خلفية جنائية. وكما لم يرتدِ أولئك السجناء سوى البطانية كنوع من تحوير الجسد إلى أسلوب مواجهة، وأطلقوا بعدها احتجاجًا أسماه كثيرون “الاحتجاج القذر”، إذا رفضوا الاستحمام وحلق لحاهم وفرغوا فضلاتهم ودماء الطمث على جدران السجن، قبل أن يستشهد عشرة منهم عام 1981 جرّاء إضرابهم عن الطعام، فإن الشبان الستّة يتحايلون على من يتحكّم بموقعهم الآن بإرجاع وجبات الطعام إليهم لليوم الرابع، ليكون بذلك كسرًا لسلطة السيطرة عليهم، تمامًا مثلما تفعل النطف المهرّبة من عتمة الزنازين وتستحيل أطفالًا لأسرى خلف القضبان.
“إن حلم الشهيد هو كابوس السلطة، مثلما كابوس الشهيد هو اندثار الأحلام، لذلك تصدّ السلطة كابوسها المزدوج، بأفكار تصدّ الأحلام، وتجعل من زمن الشهيد كابوسًا تولى. وهكذا تقام المكتبات لاجتثاث الأحلام، وتظل هواجس الحالمين موزّعة في الفراغ، لا مكتبات لها”. وكي لا يكون اندثار حلمهم بالحرية كابوس الشبان الستّة، لا بدّ لغيابهم عنّا أن يؤرّقنا، ويحرّضنا على أن نحضر بينهم، خصوصًا أنّ هذا الغياب القسريّ أشبه بوقت بدل ضائع في سجون السلطة. إنّها تضع أعمارهم على الرّف، وتمضي إلى صكوك ولائها دون أن يرف لها جفن. تخدش بأظافرها الصلفة وجوهنا، وتدّعي حمايتنا في آن. أمّا نحن، فإما أن نتراجع إلى الخلف أو أن نخطو إلى الأمام. قد أبدو حالمةً بعض الشيء، لأنه حتمًا سيكون هناك باسل ثانٍ وثالث ورابع، طالما تستمد السلطة وجودها وشرعيتها من هذا الأمر، ولن ينتهي إلّا باندثارها. لكن مهلًا يبدو أن لا خيارَ لنا في هذا. خيارنا الوحيد ألا نكون الفريسة القادمة، كي لا يطلّ علينا باسل ورفاقه من زنازينهم، ويقولوا لنا “لقد امتلأنا بكلّ أسباب الرحيل”.
هيثم سياج 19 عامًا من الخليل، أسير محرر قضى سنة و3 شهور في السجن، لم يمضِ على الإفراج عنه من سجون الاحتلال سوى 8 أشهر، يتدرب على السياقة ويمارس بعض الأعمال الحرة.
محمد عبد الله حرب 23 سنة من جنين، مهندس كهربائي خريج جامعة النجاح، إنسان مبادر، مهتم بالتاريخ والفكر والفلسفة، كان يتدرب في مكتب هندسة في رام الله، وهذه أول تجربة له في الاعتقال السياسي.
باسل الأعرج : 33 عامًا من بيت لحم، حامل لشهادة الصيدلية ويعمل كباحث في التاريخ الفلسطيني الشفوي، مهتم بالتاريخ والفلسفة وكان يعقد ندوات ثقافية مناقشة أبحاث وكتب.
سيف الإدريسي: 26 عامًا من طولكرم، اعتقل من منزله، يحمل درجة البكالوريوس في التسويق وكان يعمل في إحدى الشركات، وقد تعرض سابقا للاستدعاء والتحقيق والاعتقال لدى السلطة عدة مرات.
محمد السلامين: 19 عاما من البيرة، طالب سنة أولى بجامعة بيرزيت، اعتقل بعد استدعائه للتحقيق وهذه أول تجربة اعتقال له، قالت والدته إنه تعرض للتعذيب بعد اعتقاله.
علي دار الشيخ، 21 عاما، من قرية بدّو وتعيش عائلته في بير نبالا، يعمل في محل للأحذية ويسكن مدينة رام الله، تم اعتقاله بعد استدعائه للتحقيق يوم 7/4/2016، لم يتعرض للاعتقال سابقا.