عزيزي ..
أو بالأحرى، أيها الذي لا اعرفُ عنه شيئا إلا صورة لجسدٍ ضئيل انتشل من تحتِ الأرض، من تحتِ القصفِ، من بقايا الحياة المفتتة التي لم تكن، من أشلاء الرحمة التي تفتت في العالم، “عمران الاسمنتي” الذي أدهشت بلادته العالم، العالم الذي سقط خيرهُ ورحمته ورأفته وحبهُ في حفرةٍ كبيرة وقصفت فمات الكل هناك، العالم الذي كان يتثاءب شره فإذا به مات هناك وما يزال فاتحا فاهه ليقول، “هل من مزيد؟”، الشر لا يشبع، كذلك القتل والقاتل، وحده المقتول يغرق في وحشة ألمه، العالم بشره ونحسه وظلمه وناره وجزعه وظلاميته وقسوته وجهله أكثر من أوروبا في القرون الوسطى، العالم الذي ركل كل شيء وغرق في سوئه وفي حلب.
سننساك يا عزيزي (أنا وهم وغيرهم) سننساك كما نسينا محمد الدرة، إيمان حجو، إيلان، والكثير الكثير غيرهم حتى أطفال هيروشيما وناكازاكي والرجل الذي اقتلعت عينه وقتها، ومشردي الحروب، وضحايا الألغام وأطفال المجازر الذي سلخ جلدهم، والحوامل التي بقرت بطونهن، والأصابع التي خُلعت أظافرها، نسيناها وذاب وجعها، وذبنا في سوئنا ونسياننا، لم يبقوا إلا صورة في جريدة وحبرا في كتابِ التاريخ، وخبرا في يومٍ مر، أنت وغبارك ودمك وشعرك والكرسي البرتقالي، ستذهب عزيزي عمران
ستذهب لا أعلم إلى أين ولكنك ستفعل، لا تعرف شيئا الآن، سوى أنك كنت تنتظر مساعدة صغيرة أمام –الإنسانية- وأنت لا تعلمُ حتما أنك ستكون خبرًا عاجلا، أو صورة العام 2016، أو حديث السعاة الغاضبة، وحتما لا تعلم أننا أمة التعود، والتعود لدينا أن نتابع الأخبار أمام مائدة متنوعة ونردد “يا الله”، وأننا بيد نحمل ملعقة مليئة بالحريرات ونتباكى، وطبق فاكهة ربما لم تعد الأخبار أهم منه، أو أنك قد تكون أهم من سهرية على البحر أو خروجة عاجلة، أو قيلولة تحت المكيف، هل تعرف المكيف؟ وأفلام الكرتون والمدارس والبحر والعالم؟ هل عرفك العالم؟
لا يهم .. كل ما يهم أن لا تعيرنا اهتمامك .. لا تضعنا في قائمة انشغالاتك لأننا لا نستحق، ببساطة لأننا في كل مرةٍ نثبت نذالتنا وتقزمنا وجهلنا، ولأننا مادة عاجزة التعامل مع ذاتها لأننا أضعف وأقل من أن نفعل ..تاريخنا المؤلم يشهد، تاريخنا الذي كنا فيه الضحية دوما، وضجر من المعنى ولم يضجر الجلاد، والجلاد أقوى هل تعلم ذلك؟
ولكن الكاميرات ومراسلو الحروب الذين حملوا على أكتافهم وثائق للتاريخ أقوى، الذي كتبوا من المكان عينه أقوى، والذي أمسكوا المايكروفون بينما تمر طائرة حربية أقوى، والذين فقدوا وفُقِدوا أقوى، والذين احتموا بصخرة أو شجرة، والذين هربوا من موتتهم الصغرى إلى موتٍ أكبر أقوى، والذين جلسوا على كرسي برتقالي بلحمٍ من اسمنت، يطالعون ببلادة نصفَ أصبع هزوا العالم ولم يهزوا قاتلًا قرر في لحظة أن يقصف منازلا مازال أهلها يؤمنون بدام عزك يا وطن.
أتُراك الوطن يا عمران، وترانا نحن القصف والقنابل والقذائف والطائراتُ الحربية، وترانا ذاتُنا من نتباكى ونتألم؟
لا تثق بنا، لا تثق بالعالم، ثق بنصف إصبعك المبتور وابحث عنه كآخر ذاكرة للوطن.