في لحظاتٍ كثيرة يتملكك شعورٌ أن العالم كله وليس عالمك الخاص فقط أُغلقت أبوابه عليك وأمسكت بأصابعك عضًا، وأدمتها فقط لتخبرك أنكَ لم تنفلت، هناكَ جزءٌ ما منك باقٍ هنا، لتكون معلقا بين المطرقة والسندان، بين الجنة والنار وبين القشة التي تكملُ بناء العش وبين الأخرى التي تقع في المنتصفِ وتهدد بسقوطه المحتم.
تلعنُ الحظ وتلعنُ الظروف وتلعنُ كل شيءٍ حولك منعك من تحقيقِ هدفٍ أو طموحٍ قد يكون نقطة تحولٍ في حياتك، كل مكافحٍ مر بهذه النقطة، وانشطر مراتٍ وليس مرة واحدة، منهم من مر بها سريعًا، لم يشعر بتعبِ الانتظار والتفكير والتخطيط وإعادته حسب المعطيات التي تفرض نفسها كمعادلة.
ومنّا من كان مسمارًا تدقه الظروف والحيثيات في خشب الغرق، وكلما يحاول الخروج تأتيه دقة أخرى لتغرقه أكثر، بين هذا وذاك يظل الحلم صورة بين العينين، وخطوة قادمة ولكنها بعيدة، ورسالة مهددة بعدم الوصول، الاستناد على جدارِ الأمل، والإيمان بيدين تصنعان الحلم حقيقة، وتكور الصعاب كورقِ بالٍ.
وبينما أفكر في كل هذا، وأفكر أن الله لم يعطنا من واسعه بالمساواة، وقد يكون ذلك عدلا لا نعلم حكمته، يمر منشورٌ لصديق فلسطيني تحت هاشتاغ تداوله النشطاء كثيرا في الآونة الأخيرة (غزة حقها تعيش)، المتابع ولو قليلاً للأوضاع في القطاع يعلمُ مليا ما تسبب فيه الحصار الإسرائيلي في أن يكون مقصلة للكثير من الحياة الطبيعية حتى لقاطنيي القطاع، موتا ضمنيا لشبابٍ لم يحق له مجرد الحق البسيط في الحلم والأمل والتعلق بقشة النجاة.
كما يقول الكاتب السويدي بار لاغر كفيست: "المحكوم عليه بالموت هو ميت"، قشة النجاة التي تشبه الخروج إلى قضاءٍ مجاور للعمل، أو التعليم أو حتى السكن، أو الحصول على حقٍ في التطبيب، المعبر الذي لا يُفتح إلا لحالاتٍ قصوى أو لا يُفتح حتى في أشد الحالات الإنسانية مأساوية.
الشباب الذي يتفتح في ظروفٍ لم يكن سببا فيها، أليس من حقه الأمل حتى في سفرة قد تقلب حياته؟ غزة حقها تعيش؟ .. لا مش من حقها! هكذا تخطر لي الإجابة، الكهرباء التي لا تواصل الثماني ساعات أو أقل يوميا، تقول ذلك، الحربان الأخيرتان اللتان قضتا على خمر عرق الكثير من أرباب الأسر الذين شيدوا سقوفًا يجتمعون تحتها وتحميهم، هُدت عليهم في ثوانٍ، النساء والأطفال الذين فقدوا معيلهم في الحروب أو الذين فقدوهم في المصاعب التي تكاد تنطق "لا حياة"!.
لا عمل ولا مأكل ولا ملبس ولا تعليم، الشباب الذي يجلس يسندُ الحائط بكتفيه وظهره، المخيمات التي يتزايد قاطنيها وتظل المساحات نفسها، والملاجئ الصغيرة التي بنيت للذين فقدوا حيطانهم وسقوفهم ووجدوا أنفسهم تحت معدنٍ حار صيفًا وبارد شتاءً، وأطفال لم يعرفوا معنى "بيت" بعد، أو معنى لعبة. ثم نسأل: غزة حقها تعيش؟ ..لا مش من حقها!
هُنا، مهما كان وضعك يشبه شارعًا أسودا بسماءٍ وحيطانٍ وأرضية أشد سوادا، بإمكانك إيجاد ثقبٍ أبيض صغير تطل منه على حلمٍ يسمى "مغادرة هذه البقعة"، قد يعتبر حلمًا على ورق، وقد تعتبر الورقة، فكرة للتخطيط ثم التحقيق، بينما يعتبر الثقب الأبيض في غزة، ثقبا أكثر سوادا وهو يغلق نافذة أخيرة على الحلم، هذا الواقع الذي نعلمه جميعًا ولا نملك ربع يدٍ في تغييره.
منذ حوالي أربعة أشهر، التقيت بشابٍ وشابة فلسطينيين التحقا بجامعة قسنطينة حديثا، سألتهما عن مدينتهما، وأصابتني دهشة أنهما من غزة، كيف حدث ذلك؟، ليخبرانني أن انتقالهما أخذ نصف سنة.
الحكايات، القصص والحوادث التي تكتب تحت هاشتاغ (غزة من حقها تعيش) ما هي إلا فكرةٌ واحدة: كيف تقتل الأمل في روح تحاول التفتح؟ غزة من حقها تعيش؟ نعم .. من حقها!