رام الله – خاص قُدس الإخبارية: لم يستطع المشي أكثر من خطوتين ثم سقط على الأرض، دمه ينزف بغزارة إلا أنه يحاول التمسك بوعيه، منصتا لأنين أصدقائه، وخوفهم، وصراخهم.
أقدام متشابهة تتحرك في المكان تشبه سواد الليل الحالك، ملامح أصحابها لا تظهر بوضوح في عيني أمير أبو حسن (15 عاما) الذي ما عاد قادرا على الصمود أكثر، قبل أن يستعيد وعيه مجددا إثر قدوم والده للمكان بعد نصف ساعة، ثم يقترب أحد الجنود منه ويبدأ بالضغط على جرحه النازف.
بالغطاء الأسود المخصص لتغطية الموتى، غُطي أمير في سيارة الإسعاف التي رافقه فيها جندي وممرض بقيا يتبادلان الحديث طوال الطريق، ويلقيان النظر عليه بين الحين والآخر "ألم يمت بعد؟"، قبل أن يتبين لاحقا أنه مازال على قيد الحياة.
فرحة تلونت بالدم
احتفالا بقدوم قريبهما من قطر، توجه الشقيقان أمير وداود أبو حسن وابن خالهما محمود بدران وثلاثة أصدقاء آخرين من قرية بيت عور التحتا في21/حزيران إلى متنزه قرية بيت سيرا المجاورة للعب والسباحة، حتى أرسلت لهم عائلتهم مركبة تقلهم إلى البيت.
على باب المتنزه وقف عهد هلال (21 عاما) بمركبته بعد منتصف الليل، ينتظر الفتية الستة الذين يلتقطون الصور، قبل أن يركضوا متسابقين متنافسين على الجلوس بجانبه، "كان ماجد ومحمود يخططان للنوم عند صديقنا مجد، فيما اتفقنا على العودة بعد العيد إلى المسبح واللعب لمدة أطول"، يروي داود أبو حسن (14 عاما).
ضوء المركبة يشتت الظلام الحالك الذي يحاول ابتلاعها منذ ربع ساعة على سيرها؛ وسط قهقهات الفتية التي قطعتها فجأة صليات من الرصاص استقرت في أجسادهم، قبل أن يفقد عهد سيطرته على المركبة لترتطم بالجدار.
"لم يكن هناك أي شيء، ما إن وصلنا الجسر حتى بدأ إطلاق النار علينا من شارع 443 الاستيطاني، أصبت برصاصة في رأسي ففقدت السيطرة على المركبة"، يقول عهد الذي أصيب برصاصة بصدره وأخرى بيده، وثالثة في رأسه، لكنه نهض وركض محاولا الوصول لأي مركبة مارة لتنقذهم.
"لم أتوقع أن أعيش" يختصر عهد الخوف الذي أصابه في تلك اللحظات، قبل نقله بسيارة مدنية إلى مجمع فلسطين الطبي ثم إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية، "تضررت رئتاي، كما تهشم صدري من الرصاص وشظايا الزجاج، إضافة للرصاصة التي أصابت رأسي وسببت جرحا كبيرا دون أن تخترق الجمجمة".
فيما يروي أمير، "خرجنا من السيارة، إلا أنني لم أستطع المشي وسقطت، ثم بدأ الجنود بتطويقنا وكان بينهم شخص يلبس ملابس سوداء ويحمل كاميرا وباشر بالتقاط الصور".
أطلق الجنود وابلا من القنابل الصوتية والغازية تجاه المركبة بعد ارتطامها بالجدار، والفتية المفزوعين غير واعين لما يدور حولهم، فيما حاول داوود استجماع قواه وهاتف والدته وهو يصرخ، "طخونا يما ... ألحقونا".
ويضيف داوود الذي أصيب برصاصتين من النوع المتفجر في يده وقدمه، "رأيت أمير مشى قليلا ثم سقط، أما عهد فكان وضعه صعب جدا، مجد عبد الرؤف وماجد محمد ماجد لم يكن بهم شيء، فيما هادي كان مصابا بيده".
داوود كاد أن ينسى أن صديقه محمود بدران (15 عاما) الذي كان برفقتهم، قبل أن يلحقه صديقه مجد ويخبره أنه وماجد أخرجا محمود من المركبة وكان قد فارق الحياة، "لم أتوقع أن يستشهد أحد فينا، لم أفكر سوى بالهرب من المكان... اعتقدت أني أحلم كنت أضرب رأسي وأصرخ يلا أصحى".
لا ينسون
ولا يمر يوم إلا ويزور داوود قبر صديقه محمود ليسقي الورد المزروع عليه، أما شقيقه أمير فما زال غير قادر على الخروج من المنزل، "أصبت برصاصة في البطن تفجرت مسببة أضرارا بالرئة والمعدة والأمعاء والطحال والكبد الذي أزيل 70% منه، إضافة لكسر في القفص الصدري، كما أصبت بثانية مزقت نصف كتفي حتى ظهر العظم، وثالثة في قدمي"، يقول أمير.
ست عمليات جراحية أخضع لها أمير خلال 18 يوما، اقتحم خلالها محققو الاحتلال غرفته واستجوبوه، وما إن أنهى فترة العلاج الأولى حتى ألغي تصريح دخوله لمدينة القدس لتلقي باقي مراحل العلاج اللازم في مستشفي "هداسا".
أما عهد، فمنذ الحادثة لا يستطيع النوم إلا ساعات قليلة، ولا يدور في رأسه سوى ما مر به، يتألم عند كل نفس يأخذه، فيما يواصل تحسس الرصاصة التي بقيت عالقة في يده اليسرى فوق الوريد تماما، والتي تؤدي لتشنجات مؤلمة بين الساعة والأخرى، يقول: "لا أشعر بأي تحسن، أشعر بألم كلما تنفست ولا أستطيع القيام بأي مجهود".
أيام مضت دون أن يعلم عهد أن محمود الذي افتقد صوته لحظة اطلاق النار، لم يكن يحاول أن يكون هادئا كما توقع، بل ارتقى شهيدا.
ويؤكد الفتية أن مركبة حارس المستوطنة الذي يحرس الشارع الاستيطاني المحاذي للقرية، كانت متوقفة بالقرب من المكان، متوقعين أن يكون هو من أطلق الرصاص.
ورغم إعلان الاحتلال أنه قام بإطلاق النار بالخطأ تجاه الفتية، إلا أنه صادر المركبة الخاصة بعهد التي هي مصدر رزق له ولأسرته، كما سحب تصاريح العمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948 الخاصة بشقيقيه ووالد الفتيين المصابين أمير وداوود.