مخيم قلنديا – خاص قُدس الإخبارية: تلح عليها روحها لتنادي اسم "وسام" مجددا، فتصفعها بتذكيرها أن وسام لن يجيب، ثم تهرب من الفكرة إلى النوم، فتلاحقها مجددا ويُملأ الكون بصوتها تنادي "وسام ... وسام".
ففي يوم الخميس 24/كانون أول الماضي، لم يعد وسام أبو غويلة لمنزله في مخيم قلنديا، بل مضى بمركبته إلي معسكر لجيش الاحتلال مقام على أراضي بلدة الرام، لينفذ عملية دهس فدائية تكتم الاحتلال على تفاصيلها ونتائجها.
فبعد ساعات قليلة من خروج وسام (21 عاما) برفقة والده وشقيقه إلى عملهم في جمع أغطية العلب الحديدية وإعادة بيعها للمصانع، استقبلت أم وسام نبأ استشهاد نجلها وهي تعد له طبخته المفضلة "ورق الدوالي".
"بالعادة نتفرق ثلاثتنا، ويعمل كل واحد فينا في منطقة، وهو ما حصل في ذلك اليوم، إلا أن الفراق ظل للأبد... قلت له يرضى عليك يا وسام ترد على التلفون وما تتأخر علي، فابتسم كعادته وهز رأسه وذهب ولم يفِ بوعده لي"، يروي ناصر والد وسام.
على صفحات الإعلام الإسرائيلي نُشرت صورة مركبة وسام التي نفذ بها عمليته الفدائية، ليصل الخبر سريعا إلى العائلة، ويعود ناصر للمنزل دون نجله. تقول أم وسام: "جن جنوني ... قلت له كما أخدته أعده لي، ارتديت ملابسي سريعا لأذهب وأعيد وسام كما كنت أعدته سابقا من المشفى وهو مصاب".
يدور شريط الذكريات سريعا، ليتوقف حيث تعسرت ولادة وسام، إذ قرر الطبيب ضرورة أن تتم الولادة في الثاني من شباط 1995 حيث كان أول أيام عيد الفطر، فولد وسام في مستشفى المطلع بمدينة القدس. تضيف أمه، "تأخرت ولادة وسام، إلا أن العملية كانت سهلة وسريعة .. رغم أنه الابن الرابع إلا أن الفرحة بقدومه كانت مختلفة ومميزة".
شديدا الحرص على ابنهما كانا، حتى أنهما حاولا دائما قدر ما يستطيعان منعه الخروج من المنزل، "لم أكن أريد أن يفارق عيني، كنت دائما أشعر بالخوف والقلق عليه دون أن أعرف السبب .. كنت أتوقع أن يستشهد، ولكن لم أتخيل يوميا أن ينفذ عملية"، يقول والد وسام الذي لطالما فشلت محاولته.
لكن وسام اعتاد الخروج متسللا للمشاركة في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال للمخيم، كما كان من المواظبين على المشاركة بالمسيرات والمواجهات، وقد وصل للعائلة نبأ استشهاده مرتين.
فعلى سياج حاجز مخيم قلنديا، صعد وسام عام 2013 ليزرع علم فلسطين عليه خلال دخول عشرات الشبان الغاضبين إلى الحاجز فور إعلان استشهاد محمود عواد (الأحتي)، قبل أن يسقط وسام بعد إصابته برصاص القناصة.
وبعد عام أصيب وسام مرة أخرى. يروي والده، "وصلنا نبأ استشهاد وسام فتوجهنا فورا إلى المشفى.. ليتبين فيما بعد أن الشهيد هو محمد الأعرج فيما وسام مصاب"، مضيفا، أن وسام أصيب للمرة الثالثة العام الماضي برصاصتين إحداها بقيت عالقة في جسده حتى استشهاده.
بصوت مبحوح كان يعود وسام من جنازات شهداء المخيم، فصوته يهدُرُ للشهداء دائما "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" قبل أن يغيب الصوت إلى الأبد. تروي أمه، "اشتريت له علبة سكر فضي، وما زلت احتفظ بها مكانها .. فكلما كان يعود من جنازة أحد الشهداء أقول له أن يتناول منها حتى يعود صوته سريعا"، مبينة، أنه في تشييع الشهيدة هديل عواد لفت انتباه الحضور بهتافه وانفعاله.
حنونا، عطوفا، محبا لخدمة الآخرين كان وسام، الذي منذ بلغ العاشرة من عمره وهو يعمل بجد لمساعدة عائلته، فيوضح والده أن العائلة تمكنت من بناء منزلها الخاص قبل ست سنوات بمساعدة وسام، مضيفا، "كل شيء بهذا المنزل شارك به وسام وتعب فيه، وترك لنا رائحته فيه ... فوسام لم يكن يوما شابا طائشا بل شاب عمليا ومجدا".
ووسام كان دائم الأناقة محبا للحياة، حريصا على حلاقة شعره بطريقة مميزة، كما كان محبا للسواقة وماهرا بها، فيما لم تحُدَّ ظروفه المادية الصعبة من طموحه وأحلامه، فقد كان يسعى لإعادة دراسة الثانوية هذا العام مرة أخرى، والالتحاق بالكلية العسكرية أو السفر إلى مصر لدراسة الحقوق.
كما أبلغ وسام والديه قبل أسبوع من استشهاده عن نيته الزواج، "كان يقول أنه لن يوزع دعوات لحضور زفافه بل سيوجه دعوة عامة عبر مكبرات الصوت بمسجد المخيم ... وهو ما تم فعلا عند تشييع جثمانه، وقد لبى كل المخيم الدعوة وعمل لوسام أحلى زفة"، تقول والدته.
وأصرت والدة وسام أن تودع نجلها في غرفته وعلى سريره، بعد احتجاز جثمانه لأسبوع ثم تسليمه، "حضرت له الورد وزينته بها، كما زغردت في استقباله، ودَّعته دون أن أبكي حتى لا يشعر بحزني.. وعندما وضعوه على سريره كان وكأنه نائم... حاولت ايقاظه ولكن لم يستيقظ".
وتدخل "أم وسام" اليوم المخيم فلا ترى وسام واقفا ملوحا بيدها لها، ولا في المركبة المقبلة صوبها، والتي اعتادت أن يلاقيها بها ويوصلها إلى المنزل، "أكاد أحيانا أن أرفع يدي وألوح له، أرى المخيم فارغا بدون وسام الذي كان يخرج معي دائما ويلاقيني بضحكته ويمازحني".
إلا أن وسام لا يغيب عن أحلام والدته، "حلمت مرة أنني أبكيه، فجاء وأمسك بيدي وأخذني إلى منطقة مقسمة لأحواض ملونة، وأمامها ساحة كبيرة وكان يضحك .. كما حلمت به يصعد درجات منبر وهو يرتدي بدلة رسمية مستعدا لإلقاء خطبة على حضور كبير".
ومايزال معطف وسام معلقا خلف باب غرفته، كما أن علبة عطره ومشطه مازالا في مكانهما بغرفته مكانه، فيما أم وسام لا يمر يوما عليها دون أن تفتح خزانة ملابسه لتشم رائحته التي بقيت خلفه، وقد استعدت لتردد اسمه بصوت عال من جديد، فقد أوصى شقيقته أن تسمي مولودها الجديد باسمه.