نابلس – خاص قُدس الإخبارية: على مائدة الطعام ما زالت فاطمة تضع صحن هيثم وملعقته، تتلفت فتراه جالسا على كنبته جنب التلفاز، وفي زاوية الغرفة تراه يصلي العشاء، وحينما تضع رأسها على الوسادة تسمع صوت ترتيله للقرآن كما اعتادت.
"بدي أزوجك يا هيثم بس أرجع"، وعدت فاطمة نجلها هيثم محمود ياسين (35 عاما)، بينما طلب هو منها أن تنقش يديه بالحناء. عُقد الاتفاق وعادت الأم مع بقية أفراد العائلة إلى حيث يقيمون في الجزائر، بعد أن أقاموا لتسعة شهور في فلسطين، على أن يعودوا مجددا في فصل الصيف استعدادا لزفاف هيثم.
بتاريخ الرابع عشر من كانون ثاني، عادت فاطمة من المركز الصحي القريب من منزلها في الجزائر؛ بعد إجراء الفحوصات الطبية، وفي طريقها وكالعادة، استوقفتها إحدى جاراتها تسألها عن حال هيثم في فلسطين مطمئنة عليه. وما إن وصلت منزلها واستعدت لأداء صلاة الظهر، حتى وصلها نبأ ارتقاء هيثم شهيدا قرب حاجز الـ17، خلال عودته لقريته عصيرة الشمالية في مدينة نابلس.
صرخت فاطمة: "هيثم لا ... هيثم لا". ثم استقلت وزوجها أول طائرة متوجهة للأردن، ثم إلى فلسطين، لتلقي نظرة الوداع الأخيرة على نجلها الشهيد.
تعددت الروايات حول ظروف استشهاد هيثم، ولكن ما أُجمِع عليه أن عراكا بالأيدي بدأ بعد استفزاز جنود الاحتلال لهيثم على الحاجز، وانتهي الأمر بسبع رصاصات استقرت في ظهره، ترك بعدها ينزف لساعتين حتى ارتقى شهيدا.
أما سلطات الاحتلال فقد أعلنت أن الشهيد هيثم حاول تنفيذ عملية طعن، ونشرت صورا له مسجى على الأرض وإلى جانبه سكين قالت إنه كان ينوي استخدامها في تنفيذ العملية.
"كان يدخل علي طول وعرض، ولكنه عاد إلي محمولا ... كنت أريد أن أزوجه ووعدته أن أحنيه بيدي، ولكني حنيته شهيدا ورضيت عليه"، تقول فاطمة.
وحسب ما جاء في التقرير الطبي، فقد أطلق جنود الاحتلال النار على هيثم من مسافة قريبة جدا، حيث اخترقت جسده سبع رصاصات من ظهره، بينما كانت الرصاصة التي اخترقت رقبته هي القاتلة.
تتفقد فاطمة المنزل حيث كان يقيم هيثم لتجمع ما بقي من رائحته، ثم تعلق: "وجدت أنه ملأ الثلاجة من كل شيء قبل فترة قصيرة، وضع فيها لحما ودجاجا وبرتقالا وخضارا ... لقد كان يخطط أن يطبخ شيئا عندما يعود ... ولكنه عاد شهيدا".
شهور مضت على استشهاد هيثم، فيما فاطمة تبكيه حتى كادت تفقد بصرها، ما استدعى إخضاعها لعمليات جراحية في عيونها لإنقاذ قدرتها على النظر. تضيف، "أبكي عليه طوال الوقت... استشهد فداءً لوطنه، ونحن نؤمن أننا كلنا فداء لفلسطين... ولكني مقهورة كيف تركوه ينزف حتى ارتقى شهيدا".
وتعود فاطمة بذاكرتها إلى التاسع من آب/1981، حيث ولدت طفلها الثالث، ولكن هذه المرة في فلسطين، تحديدا في مستشفى الاتحاد بمدينة نابلس. تقول: "أقمنا له حفلة كبيرة، سعادة جده وجدته كانت كبيرة جدا وأهدونا ذهبا احتفالا بقدومه"، موضحة أن جدته طلبت أن يبقى في نابلس وتعتني هي به، إلا أن فاطمة لم تستطع أن تعيش بعيدا عنه.
عادت العائلة مجددا إلى الجزائر حيث تقيم، ليكبر هيثم متخطيا المراحل الأساسية فالثانوية وصولا إلى الجامعة، حيث درس المحاسبة، قبل أن يقرر العودة لفلسطين مجددا بحثا عن الاستقرار والعمل. وتبين فاطمة أنه قبل إنهاء دراسته أخبرها بنيته العودة لفلسطين، وقال: "أنا كرهت الغربة وبدي أكمل حياتي في بلدي".
شهور قليلة مضت على عودته لفلسطين قبل أن يعيش هيثم تجربة أليمة ستغير مجرى حياته. ففي السابع من كانون أول/ 2006، أوقف حاجز لجيش الاحتلال هيثم، إضافة لحافلة كانت تمر عن الحاجز، ثم أجبروا كل ركابها على الترجل، وأخذ أحد جنود الاحتلال يضايق إحدى الفتيات، فتدخل هيثم محاولا الدفاع عنها لينهال عليه جنود الاحتلال بالضرب.
من خلف ظهره أطلق جندي ثلاث رصاصات على هيثم، أصابته إحداها في أمعائه والثانية في الكبد، والثالثة في القدم، مسببة له إعاقة دائما، إذ ترك ينزف حتى فقد الوعي، ثم نقل إلى مستشفى بلنسون الإسرائيلي، قبل أن ينجو من موت محقق، بعد أن اعتقد الجميع حينها باستشهاده.
وتوضح فاطمة، "قال لي هيثم إنه حين أصابته شعر بروجه خرجت من جسده ووصلت السماء.. وأخبرني أنه بقي يردد الشهادتين حتى أغمي عليه".
واحتاج هيثم لرحلة علاج طويلة وصعبة حتى يستطيع الوقوف على قدميه والخروج من المنزل. تبين فاطمة، أنه بدأ تدريجيا المشي، بداية باستخدام العكازات حتى استطاع التخلي عنها، لكنه كان يمشي بصعوبة، فبسبب الرصاصة أصبحت قدمه المصابة أقصر من السليمه بسبع سينتمترات، وهي مسافة واضحة جدا.
صاحب ابتسامة دائمة كان هيثم، غادر تاركا سمعة طيبة في الجزائر حيث عاش معظم سنين حياته، كما في فلسطين حيث عاش السنوات العشر الأخيرة من عمره. كان يحرص دائما أن يرتدي أجمل الملابس ويرش نفسه بالعطور كلما خرج من المنزل، كما كان يحب ممارسة الرياضة والغناء.
وتروي فاطمة عن رمضان الأخير الذي قضته مع هيثم، "كان يأكل التمر ويشرب اللبن والماء ويتوجه فورا إلى المسجد للصلاة ... هكذا اعتدنا عليه مذ كان طفلا، كان صاحب دنيا ودين، يضحك ويمزح ويلعب، لكنه كان حريصا على صلاته ومتمسكا بدينه".
وتضيف، "كان يؤثر الآخرين على نفسه، يقطع عن فمه الطعام ليطعم من يحتاج حوله ... في أحد أيام الشتاء مر عن راعي أغنام، فأشفق عليه، خلع معطفه وأهداه إياه".
وكان هيثم يحرص دوما أن ينال رضا والديه، تقول فاطمة: "كان يساعدني في تنظيف منزل أخيه، فسألني فجأة ماما انتِ راضية علي؟؟ وعندما أجبته أني أرضا عليه طوال الوقت، وضع يده على صدره وقال: أنا الآن مرتاح".
وتضيف، أن هيثم أحب دائما اللون الأخضر، وفضّل باستمرار شراء الملابس الخضراء، وحين سُئل عن حبه لهذا اللون أجاب: هذا لون الجنة كيف لا أحبه".
وتشير فاطمة إلى أنها لم تلتق ابنها الشهيد في الحلم حتى الآن، وتعتقد أن ذلك يعود لبكائها المستمر على فراقه، لكنها تضيف أن شقيقه رآه في قصر كبير حوله حدائق خضراء، ويقف بين "شراشف" بيضاء، وقال لشقيقه: "أخبر والديَّ أني أشكرهما على دعائهما".