رام الله – خاص قُدس الإخبارية: "ندمان لأنك تركتنا؟" سألته من خلف الزجاج المقوى الفاصل بينهما، وقبل أن تكمل جملتها، أجابها: "أبدا مش ندمان .. هذه أولى الخطوات تجاه وطني وشرفي والمسجد الأقصى الذي سيسألني عنه الله ماذا فعلت لأجله، وسأقف أمام سؤاله بثبات".
الساعة العاشرة والنصف من يوم 13/تشرين أول، خرج خالد الباسطي (27 عاما) من عمله في منطقة "رعنانا" بمدينة "تل أبيب"، بعدما أبلغ زميله أنه يريد إحضار الفطور، غير أن الإفطار هذا الصباح كان مختلفا.
اللحظات الأخيرة
واثق الخطى، هادئا، اقترب خالد من مجموعة إسرائيليين واستل سكينه ثم شرع بالطعن لينال من خمسة منهم، ثم واصل الجري والمستوطنون يلاحقونه حتى دهسه مستوطن بمركبته فسقط مغشيا عليه، فيما انهال عدد من المستوطنين على وجهه ورأسه ركلا، ثم جلس أحدهم فوقه ورفع آخر قدمه ولفها حتى كسرها.
"استيقظت فوجدت مكالمة لم أجب عليها من خالد، ورسالة نصية على هاتفي يوصيني فيها بالاعتناء بنفسي والأولاد.. اتصلت به فلم يجب"، تروي مرام زوجة خالد.
قبل ربع ساعة من تنفيذ عمليته الفدائية، هاتف خالد والدته، "يسعد صباحك يما... حبيت أصبح عليكِ وأسمع صوتك، ما تنامي وروحي اشربي قهوتك"، ثم أنهى مكالمته طالبا منها الدعاء له.
وصل الخبر لعائلة الباسطي، فركعت "أم خالد" داعية أن ينال ابنها الشهادة، فيما تمسمرت مرام مكانها رافضة استيعاب أن يحل مكروها بزوجها الذي ارتشف معها قهوة الصباح قبل ساعات، ثم غادر وعاد سريعا لأنه نسي أن يطبع قبلاته على وجه طفليه صلاح الدين وأسامة.
سريعا تسربت فيديوهات التنكيل بخالد على مواقع التواصل الاجتماعي ووصلت لعائلته، تقول والدته: "تأثرنا كثيرا عندما رأينا الفيديوهات الأولى وهم يضربون خالد، ولكن بعد أن رأينا تصوير عملية الطعن نسينا كل شيء وتحول عذابنا إلى فرحة .. نحن نفخر ونتباهي بما قام به، والله شيء برفع الراس".
لاحقا حذفت مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات ملاحقة خالد ودهسه والاعتداء عليه.
ونقلت سلطات الاحتلال خالد لمستشفى "بنسيون" وهو في غيبوبة. وتنقل مرام عن زوجها أنه عند استيقاظه ظن أنه لم يفقد وعيه إلا للحظات، فحاول النهوض لاستكمال تنفيذ عمليته ليقابل بالضرب المبرح، ثم قبل أن يستكمل علاجه نقل لمركز توقيف "المسكوبية" في القدس، رغم أنه ما يزال يعاني من آثار الاعتداء عليه وكسر قدمه.
الوداع الأخير
قبل تنفيذه عمليته الفدائية، حرص خالد أن يجهز منزل أسرته بكل ما يلزمها لشهور عدة، وخصص اليوم الأخير ليقضيه مع طفله صلاح.
تروي مرام، "أشترى كل مستلزمات المنزل من كل ما يخطر على البال، وقضى طيلة اليوم برفقة ابنه صلاح الدين حيث عادا بساعة متأخرة من الليل، اتصل بي قبلها وطلب مني أن لا أنام وانتظره لكي نجلس معا، ولم يغف في تلك الليلة إلا نصف ساعة".
هادئا، كتوما، مرحا، معطاءً، كان خالد كما تصفه مرام، وقد تعلق كثيرا بطفليه صلاح الدين (3 سنوات) وأسامة (سنة واحدة)، وتضيف، "أفتقده جدا، فهو عامود البيت، هو روحي وكل حياتي وسندي في الحياة .. ولكن الوطن بحاجة لكثير من التضحيات، وخالد كان واحد من هذه التضحيات، وأنا وأطفالي سنكون أيضا فداء لهذا الوطن".
أما صلاح، فمنذ اعتقال والده لا يتوقف عن السؤال عنه، "وين بابا؟ متى بابا جاي؟ بابا بده يعلقلنا فانوس رمضان على الشباك؟". تعلق مرام: "استفقده عندما تجتمع العائلة ويبقى غائبا، أرى الكل يلاعب أطفاله، وهو غير موجود ليلاعب طفليه"، مضيفة، "الحياة صعبة في غيابه، مرت تسعة شهور ولكني سأنتظره حتى لو مر 90 عاما".
من الحجارة للطعن
"إلى متى سنبقى متفرجين؟!".. كان خالد يتساءل دائما أمام تصعيد الاحتلال من اعتداءاته، قبل أن يزيد اشتعال النار في صدره فيديو التنكيل بالطفل الأسير أحمد مناصرة، "بقي مصدوما بعد أن شاهد فيديو الاعتداء على مناصرة .. كان كتوما ولا يتحدث كثيرا إلا أنني كنت أشعر بمدى الغضب في داخله"، تقول والدة خالد.
ومنذ طفولته لم يغب خالد عن المواجهات والتظاهرات ضد الاحتلال، وقد حرص دائما على التلثم والتخفي إذ يعتقد أن العمل للوطن واجب يجب عدم التفاخر به، كما تقول والدته التي تروي أنها استطاعت تمييزه في مواجهات كانت قد اندلعت ببلدة الرام شرق القدس، لكنه أصر على نفي مشاركته فيها.
وتعلق: "لم أمنعه يوما ما عن المشاركة في المواجهات، فهو واجب عليه كما كل الشباب، وهكذا استمر حتى بعد زواجه".
وتوضح "أم خالد" أن ابنها وخلال اعتقاله الأول، تعرض للضرب والتنكيل الشديد، واحتجز لعدة ساعات داخل برميل للمياه في معسكر لجيش الاحتلال.
"لستُ نادما"
في إحدى جلسات المحاكمة، قال القاضي لخالد: "أنت قلت أنك تريد أن تكون شهيدا شهيدا شهيدا"، فوقف خالد وأجاب: "نعم أريد أن أكون شهيدا شهيدا شهيدا، ولست نادما على ذلك". التفت إليه المدعي العام قائلا: "أنت تغلّب أهلك"، فأجابت العائلة: "غلبته راحة وكلنا فداه". حينها وقف خالد قائلا: "لن أبقَ هنا كثيرا.. أنتم ستصبحون مكاني".
تعلق مرام: "خالد يملك معنويات عالية جدا.. ودائما يقول لنا أنه سيعود قريبا".
طلب الادعاء العام الإسرائيلي سجن خالد لـ(20 عاما)، لكن بعد الاستماع لشهود خلال الجلسة الأخيرة تحدثوا عن تعرضهم للطعن من خالد، تم رفع الحكم المطلوب إلى (30 عاما)، دون أن يتم البت بشكل نهائي في الحكم.
وتقول مرام: "عندما دخل الشهود الإسرئيليون التفت إليهم خالد بغضب، وأخذ يهز رأسه كأنه يقول لهم القادم سيكون أعظم".
وتوضح مرام أن إحدى الشاهدات كانت مسنة (82 عاما) تحدثت عن تعرضها للطعن من خالد، لكن وفور انتهائها من الإدلاء بشهادتها التفتت إلى عائلته وانحنت أمامهم معتذرة عن ماورد في شهادتها ثم غادرت القاعة.
وتضيف، أن العائلة وجدت المسنة بانتظارها في الخارج لتتقدم باعتذارها مرة أخرى، معتبرة ذلك دليلا أن المسنة كذبت بطلب من سلطات الاحتلال لمضاعفة الحكم على خالد.
وتشير مرام إلى أن زوجها أكد للعائلة أنه رآها فعلا خلال العملية لكنه تجاهلها، وأنه منذ لحظة اتخاذه القرار بتنفيذ العملية نوى عدم المساس بمسن أو امرأة أو طفل.