رام الله – خاص قُدس الإخبارية: ما إن غفت عيناه، حتى جاء نداء جديد من الغرفة المجاورة، "يابا ... محمد ببكي". على باب الزنزانة المغلقة وقف موسى نافضا النعاس عن عينيه وسأل: "محمد شو مالك"، ليرد الصدى شهقة بكائه، فتابع موسى، "الزنازين مغلقة ... الصبح بشوفك وبنقعد نحكي .. روح نام وارتاح".
أب ومعلم.. وواجبات أخرى
أب، معلم، مرشد اجتماعي، صديق، أخ، والقائمة تطول لمهام كان يقوم بها موسى حامد (44 عاما) في قسم الأسرى الأطفال في سجن "عوفر"، خلال السنوات الأربع الأخيرة من اعتقاله، قبل أن يفرج عنه بعد (12 عاما) من الاعتقال في سجون الاحتلال.
عاد موسى لعائلته في سلواد شرق رام الله في أيار الماضي، تاركا خلفه أكثر من 100 ابن، كان يحتضنهم كل يوم، يمسح دموعهم، يسمع آلامهم، يوجههم وينصحهم، ويقف أمام إدارة سجون الاحتلال دفاعا عن حقوقهم.
"في كانون أول 2012 بدأت تجربتي في قسم الأشبال بمعتقل عوفر.. كانت تجربة صعبة جدا ومريرة لكنها جميلة". تفاجأ موسى - الذي مر بعد اعتقاله بتحقيق قاس امتد أكثر من 70 يوما - بأطفال معتقلين تتراوح أعمارهم بين (13-17 عاما)، أخضعهم الاحتلال لتحقيق قاس واعتدى عليهم بالضرب المبرح ونكل بهم.
استغلت إدارة سجون الاحتلال جهل الأطفال المعتقلين بحقوقهم، لتواصل انتهاكاتها بحقهم، حتى انتزع الأسرى قرارا ينص على إدخال أسرى بالغين لقسم الأشبال، لتسيير أمور حياتهم اليومية وتمثيلهم أمام إدارة سجون الاحتلال.
يقول موسى: "كنا نبكي من ألمنا على هؤلاء الأطفال وما مروا به، كانت تجربة صعبة جدا لأن عاطفتي كأب كانت تغلبني دائما .. تجربة امتدت 25 شهرا ىمر علي خلالها ما يقارب ألف طفل".
ويضيف، "لولا نجاحنا بالتواجد بينهم لكنا خسرناهم، فقد كنا نلتقي بأطفال أعمارهم (12 عاما) لا يفقهون في القانون شيئا .. وجودنا بينهم كان لنحصل لهم حقوقهم من الإدارة غير المعنية بتقديم أي حق لهم، وكان وجودنا لا يريح إدارة السجن وينغص عليها".
وكان موسى أول مدرس في سجن "عوفر"، إذ استطاع أن ينتزع من الاحتلال حق الأطفال في متابعة تعليمهم داخل المعتقل، "أخذت على عاتقي تدريس الأشبال اللغة العربية والرياضيات، واستمريت مدة ستة شهور حتى انتزعنا قرارا بإحضار معلمين لتدريس الأطفال".
تنكيل بالطفولة
قسم الأشبال في سجون الاحتلال يشبه أي قسم آخر، مكون من 12 غرفة، كل غرفة مخصصة لعشرة معتقلين. يبين موسى أن الغرفة الأولى مخصصة للتدريس إذ تحتوي على ثلاثة ألواح للكتابة، ومقاعد ودفاتر وأقلام، أما الغرفة الـ12 فمخصصة للأسرى البالغين.
ويستوعب القسم 100 شبل معتقل فقط، وإذا زاد العدد ينقل الاحتلال الأسرى الأشبال لسجني "هشارون" و"مجدو"، لكن خلال الانتفاضة الحالية شهد سجن "عوفر" ارتفاعا كبيرا في أعداد الأسرى الأشبال، ما دفع الاحتلال لافتتاح قسمين آخرين.
"لم يكن هناك أي رحمة، كان الأطفال يُحضرون لا يستطيعون الوقوف على أقدامهم بسبب ما ذاقوه من ضرب، وفي أطفال أحضروا على السجن وهم مصابين، كان أصعبهم حالا طفل من بيت امر (الخليل) نهشت جسده كلاب الاحتلال"، يروي موسى.
ويعود بذاكرته للخلف أكثر، وتحديدا إلى عام 2013، عندما استقبل القسم معتقلا جديدا من مخيم قلنديا، كان يشعر حينها بألم شديد في بطنه يجبره على البكاء والصراح. يقول موسى: "أخذته لعيادة السجن بعد مفاوضات مع الإدارة، وهناك أخبرني الطبيب أنه لا يعاني من شيء ويبدو أنه يبكي ليعود لأهله".
اكتفى الطبيب بمنح الطفل المريض (15 عاما) حقنة مسكن استمر مفعولها ساعتين، وقبل العد المسائي بدقائق، داهمه الألم مجددا فعاد للبكاء، يتابع موسى، "اعتصمت واياه في الساحة الممنوع الوقوف بها في هذه اللحظة.. وأخبرتهم رفضي إدخاله للغرف وضرورة نقله للمشفى الآن حتى رضخت الإدارة لمطلبنا".
وما إن وصل الطفل إلى مستشفى "هداسا" حتى تبين أنه يعاني من تفتت في الكبد جراء اعتداء جنود الاحتلال عليه عند اعتقاله، حينها أخبره الطبيب بأنه لو تأخر ساعتين لفارق الحياة.
[caption id="attachment_94342" align="aligncenter" width="900"] الأطفال يتعرضون للتنكيل خلال اعتقالهم - صورة أرشيفية[/caption]ذاكرة مثقلة بالألم
أيام الأعياد كانت الأصعب على الأسرى الأطفال، ويصفها موسى بـ"أيام البكاء"، ثم يقول: "كل لحظة يخبروني عن طفل يبكي في الدشات (المكان المخصص للاغتسال)، أو طفل يبكي في الغرف"، بينما ينتقل موسى من طفل لآخر محاولا تطييب خواطرهم.
ويضيف، "في كل ليلة كنت استيقظ على نداءاتهم ليخبروني أن فلان مريض، أو فلان يبكي ومتضايق، كنت أطلب منه أن يقف على النافذة وأقف أنا على باب الزنزانة وأتحدث معه وأعده أن أراه في الصباح ... وعندما كنت أراه ثاني يوم كان يخبرني أنه مشتاق لأمه ويريد أن يراها.. وهكذا مع جميع الأسرى الأطفال".
وأمام مثل هذه الحالات يقف موسى عاجزا، غير قادر على الرد على الطلب الصعب: "أريد العودة للمنزل الآن".
ويبين موسى أنه لم يستطع استكمال دراسته خلال اعتقاله لتفرغه لمتابعة أمور الأسرى الأشبال، "كنا نعمل على مدار الساعة، نتابع كل تفاصيل حياة الأطفال المعتقلين، كما كنا نتابع مع الإدارة يوميا ملفاتهم ونتفاوض معها على منحهم حقوقهم واحتياجاتهم".
لكن تبقى الحالة الأصعب على موسى، عندما التقى في المعتقل بابنه عبدالعزيز (23 عاما)، الذي كان يستعد لالتقاء به بعد الإفراج عنه. يقول: "كنت متشوق جدا لألتقي بابني الأكبر عبد، إلا أننا التقينا داخل السجن .. كان اللقاء مجموعة من المشاعر متناقضة، كان لقاءً صعبا، رفضت أن استقبله بالساحة فلم أكن أعرف ماذا ستكون ردة فعلي".
ويوضح موسى أن عبدالعزيز كان يتوجه له فور استيقاظه من النوم عند السابعة صباحا، "لم يكن يفارقني أبدا، أصبحنا أكثر من أصدقاء حيث تعرفت عليه من جديد .. وكان فراقنا أصعب من اللقاء، لقد بكى كثيرا".
12 عاما من الاعتقال والشوق للحرية، إلا أن فراق موسى لنجله وبقية أبنائه الـ 100، كان كافيا لينغص عليه فرحة استعادته لحريته، ويقول: "الاعتقال كان تجربة 12 عاما من الانتظار ... كل لحظات حياتي في السجن كانت انتظار ... كان الاحتلال يحاول من خلالها أن يجبرنا على الركوع إلا أن الحركة الأسيرة لم ترضخ حتى الآن".