-إلى الذين يقفون في الصفوف الأولى للمواجهات، للمداهمات، للطعون، الصفوف الأولى للموت باستمتاع ولذة كبيرتين، لا تقل عن لذة الحياة التي اختاروا توديعها برصاصة وحلم، إلى الذين يسكنون الصفوف الأولى لحب الوطن، إلى المؤمنين جدا "حب الوطن إيمان، والشهادة تطبيقا للأولى".
الذين يصلون لله بدعاء "اللهم اجعلنا شهداء في سبيل هذا التراب، في سبيل مطر ينزل عليها دون أن يسترق منها العدو كميات من رائحة التراب، دون أوكسجين نتقاسمه مع العدو وتتبادله رئتين عدوتين، وبغازات تذكرنا مجددا كم نحن محتلون!"، إلى الشمس في بدايات اليوم، انسكاب الفجر في العيون الغرقى إلا بالنوم، في إنطلاق نيات الشهادة.
إلى الشمس مجددًا حين تنزلق منها الدموع كالعطر، تغسل أجسادهم جميعًا، بالماء البارد والخزامى، تعمدها بالأمان، تمنحها وهجًا، نورًا وقوة، إلى الحجارات الساخنة كالفطائر، أدفأ من خبز يخرج توًا من الفرن، عليه زعتر وزيت زيتون، إلى المولتوف الجميل، إلى الدبكة على وقع المداهمات والتصويب ونغمات سيارات الإسعاف ومركبات الإحتلال والأدخنة والخراب، إلى الركض ليس فرارا ولكن حفاظا على استعراض جديد.
إلى الدقائق المجيدة، الثواني المقدسة، إلى الرصاصات الخرقاء التي تجتاح أجسادهم، كما يجتاح الظلام الفاحش نورًا واسعًا، كم يحتاج النور ليغرق في العتمة؟ وهل يموت؟، إلى مشهد السقوط، "سقوط الكبار"، إلى الله وحده الذي لا يجعل الملائكة تسقط، الملائكة ترفع وترتفع، إلى أرواحهم المنقوعة في الورود، المطهرة بالحب، الوفاء، والإخلاص، الملفوفة بالحرير، المحلقة كاليمامات في نهار مشمس، قطنية كالغيمات، إليهم في الإرتقاء إلى الله الواحد الجبار.
إلى اللواتي احترقت أكبادهن مرة بعذاب الوطن، ومرة بارتقاء جزء منها، إلى اللواتي يزغردن في بكائهن، إلى اللواتي يكافحن وجعهن بترديد الحمد لله ولا غيرها، إلى القويات الماشيات برأس مرفوعة رافعات علامات النصر فوق أرواحهن، علامات النصر التي لا تنام، تتدلى انتصارتهن الكبيرة من كفوفهن، إلى المتكئات على الحيطان المستيقظة وجعًا، يستشطن عذابًا وأنينا، لسان حالهن (فش بعدك حياة).
إلى اللواتي تقفن على الشبابيك في موكب عرس الملائكة إلى الله، الأعراس التي تقام كل يوم، ولكنها تؤلم كل يوم كذلك، تبكي كل يوم، تنزف كل يوم، جراح الوطن المفتوحة، الشهداء ملحها، رائحتها ليمون وبرتقال، تغرس فوق جسد الشهيد أغصان الزيتون، وأوراق الميرمية
إليهن اللواتي يرمين بالأرز، والورد، وروائح النرجس المواكب، اللواتي يرمين الأحزان والشكاوي، البكائيات والوحشة، والأدعية ليأخذها معه في جيوب كفنه، كفنه كوفية محشوة بالكافور والخلاص، وجهه الذي يشبه بدرا مختبئا، يداه الشمع الذي لا يدوب، جسده الخارج توا من الجنة، روحه الخفيفة التي تحرسه كفراشات، ضحكته التي لا يسمعها الجميع، وحدها الأم يغلف دموعها صوت فرحه الملوح من بعيد، وانعكاس ابتسامته على وجهها، قلب الأم فرح ولكن يطفو الحزن الضبابي قليلا.
إلى القويات اللواتي يضيعن قناني الماء على الأرصفة والطرقات، ومداخل البيوت، شرفات المساجد، وأبواب الكنائس، إلى الحسنات التي تلاحق الملائكة أينما كانت، إلى السكاكين الوفية التي كانت سندًا لهم وحماية، وأخذ بثأر الكثيرات والكثيرين، إليهم وحدهم الذين صعدوا الواحد تلو الآخر بيد حجارة ساخنة وباليد الأخرى ترتفع للدبكة، إلى حاملي المولتوف بيد وبالأخرى ترتفع سباباتهم إلى الخالق البارئ، وتتحول إلى علامات النصر، إلى الذي يحملون بيد سكينا وبيد كمشة تراب وعلم صغير كوطن صغير متبقي بين ثنايا الضياع، إلى الذين يرعبون العدو بمشيتهم وبرائحتهم، وحتى في موتهم.
ونخجل ..