القدس المحتلة – خاص قُدس الإخبارية: يرتفع صوت بكاء الجدة مجددا، تتمسمر سارة مكانها وعيونها تبحث عن حضن والدتها لتركض نحوه، فلا تجدها هنا، فيما تبدأ ريماس بإصدار أصوات بلعبة الزامور الجديد مبددة عن مسمعيها أصوات البكاء المحيطة.
سارة (5 أعوام) وريماس (4 أعوام) محاطتان بمجموعة من أطفال العائلة، يلعبون في أحد أركان منزل جدتهم في بلدة قطنة شمال غرب القدس، فيما تجلس مجموعة من النسوة في الركن المقابل بصمت، يبدده بين الحين والآخر صوت بكاء الأم المفجوعة بفقدان اثنين من أبنائها.
تواصل الصغيرتان اللعب طوال الوقت، لا ترغبان بالحديث كما أصبحتا تكرهان أن يسألهما أحد مجددا عن والدتهما، كما توقفتا عن الإجابة على أي سؤال يطرح عليهما؛ فتكتفي سارة بالنظر في عينك مباشرة باحثة في أسئلتك عن إجابة صادقة لسؤال "أين ذهبت ماما؟!".. دون أن تهمس ببنت شفه.
ففي صباح 28 نيسان، خرجت مرام طه (23 عاما) برفقة شقيقها إبراهيم (16 عاما) من منزل عائلتها، لمراجعة طبيبها في مدينة رام الله، حيث أن أوجاعا شديدة تشعر بها منذ عدة أيام في قدميها، فودعت طفلتيها بعدما اطمأنت عليهما وأخبرتهما بأنها ستحضر لهن الحلوى التي يحبانها، وإذا حافظتا على هدوئهما فستحرص على شراء دمية لكل واحدة منهن.
كانت مرام في طريقها إلى مستشفى "هداسا" الإسرائيلي بالقدس المحتلة لتلقي العلاج، وقد خرجت بعد أن ودعت وشقيقها إبراهيم أمهما وداعا عاديا فهما لن يغيبا إلا بضع ساعات؛ إلا أن هذه العودة لم تتحق، ولن تكون عودة عادية كما ظن الجميع، فقناص الاحتلال على حاجز قلنديا، أمطر الشقيقين بـ 12 رصاصة ارتقيا إثرها شهيدين، لتقول سارة وريماس لكل من يسأل عن أمهما أنها ذهبت لإحضار شقيق جديد لهما، فمرام لطالما تمنت إنجاب توأم ذكور وتسميهما "رشاد وعماد".
فيروي شهود عيان، أن مرام دخلت بشكل خاطئ إلى المسلك المخصص لمرور المركبات على الحاجز، وما أن صرخ بها الجندي حتى كشفت عن الأوراق الطبية التي بحوزتها، إلا أنه لن يمهلها الكثير حتى أطلق النار عليها.
في تلك اللحظات جاء إبراهيم راكضا خلف شقيقته التي أمطرت بالرصاص ليدافع بجسده النحيل عنها، إلا أنه وما أن وصلها حتى أطلقت النيران تجاهه أيضا، فيما يؤكد الشهود أن الشقيقين بقيا ينزفان لأكثر من نصف ساعة دون تقديم العلاج لهما، حتى فارقا الحياة.
ما أن انتشر خبر ارتقاء شهيدين على حاجز قلنديا، انقبض قلب والدة مرام وإبراهيم وقد شعرت أن مكروها قد أصاب نجليها، لتبدأ محاولاتها بالاتصال عليهما دون أن تتلقى أي إجابة، لتتأكد أن الشهيدان هما ابنيها.
"انت حياتي وروحي" قال إبراهيم لشقيقته مصرا أن يرافقها إلى الطبيب ويبقى بجانبها، تعلق الوالدة، "قال إبراهيم لمرام لو تذهبي للنار الحمراء سأذهب معك، لا أتركك تذهبين لوحدك لمكان.. فهو متعلق فيها كثير". وتضيف، "كلما جاءت مرام أصرت أن تنام بجانب أشقائها وشقيقاتها .. فهي تحبهم كثيرا كما يحبونها ... فلا يوجد أحد في الدنيا يكره مرام".
مرام وإبراهيم كانا يخططان لشراء ملابس جديدة لزفاف شقيقهما حسن، والذي كان من المقرر إجراؤه بعد شهر رمضان، "كانت مرام تخطط أن تكون أجمل واحدة في العرس، كانت تبحث عن فستان يظهرها باجمل حلة.. أخبرتني أنها تبحث عن فستان لونه أسود مزركش وله ذيل طويل .. إلا أنها استشهدت قبل أن تشتريه وتفرح به"، تقول إحدى شقيقات مرام.
مرام ضحكة العائلة التي لن تعود بعد اليوم، "حنونة، عطوفة وضحوكة مرام ... تدخل وهي تضحك وتخرج وهي تضحك تنسي من يقابلها همه وحزنه"، تضيف الوالدة.
قبل يوم من استشهادها، اجتمعت مرام بإحدى عماتها وأفراد من العائلة وتناولوا العشاء معا، فتقول الوالدة، إن مرام حضرت لهم الشاي بالنعنع بيديها، وأصرت أن تقطف لهم الخوخ وتطعمهم، مضيفة، "مرام شخصيتها واثقة وقوية، اجتماعية تحب الناس وتجامل الجميع دائما، ولا تغضب أو تجرح أحد".
"عندما كانت ترى والدها حزينا أو غاضبا لا تتوقف عن ممازحته، وإن رفض تناول الطعام كانت تبقى تتوسل إليه حتى يقتنع ويأكل، حنونة جدا كانت مرام.. عندما مرضت ونمت بالمشفى لتلقي العلاج، كانت تترك منزلها وأسرتها وتأتي من الصباح وتبقى بجانبي بالمشفى"، تروي الوالدة عن مرام المتزوجة في بلدة بيت سوريك منذ ما يقارب سبعة أعوام.
وعن ابراهيم، تقول، "إبراهيم في الصف العاشر، كان يطمح العام المقبل أن يتجه للتخصص الصناعي، ويمتهن إحدى المهن ليساعد العائلة".
كان إبراهيم يصر على النوم بجانب والدته دائما، توضح أمه، "في إحدى الليالي جاء إبراهيم ونام بقربي، وقال لي أريد أن أنام تجاه القبلة .. قلت له لماذا تقول هذا الكلام .. فأجابي ممازحا "لكي تتذكريني يما".
كثير الحركة كان ابراهيم، يحب لعبة كرة القدم، إلا أنه كان متعلقا بالأرض والزراعة، "كان يقضي معظم وقته في الأرض المحيطة في المنزل، يحرثها ويزرعها ويسقيها ويعتني بحنان عليها ... في كل لحظة تمر يسألني ووالده إذا كنا نحتاج شيء، ولا ينال إلا رضانا".
أيام قليلة تفصل سارة عن المشاركة بحفل تخرجها من الروضة، حيث كانت تتدرب على إنشاد إحدى الأغنيات أمام والدتها، التي ستبحث اليوم عنها بين الحضور ولن تجدها جالسة تلوح لها وتلتقط لها الصور.
مضى أسبوع على استشهاد مرام وابراهيم، لكنهما لا يبرحان ذاكرة والدتهما ولا خيالتها، فيما تواصل سلطات الاحتلال احتجاز جثمانيهما في ثلاجاتها، رافضة في الوقت ذاته الكشف على التسجيلات التي وثقتها كاميرا الحاجز للحظة إعدامهما.