جنين –خاص قُدس الإخبارية: كان صباحًا ربيعيًا هادئًا؛ عندما وقف ثلاثة رجال أغراب أمام مجموعة أطفال يلهون، ركض القسام (12 عامًا) مناديًا والده، ثم عاد مسرعًا ليكمل اللعبة، ليودعه والده بلمسة أخيرة على رأسه، فيما ترك زوجته تواصل تحضيرها للفطور واعدًا إياها بالعودة القريبة.
أيام مضت قبل أن يرن هاتف المنزل؛ رفعت السماعة ليصلها صوته عبرها، طمأن رياض بدير زوجته أنه وصل مخيم جنين، معتذرًا لها عن العودة هذه المرة، فالمعركة على وشك أن تبدأ، ورجوعه حيًا منها يكاد يكون مستحيلًا.
طارد الشهادة حتى نالها
في شهر آذار من عام 2002 وبعد أن رفع جيش الاحتلال حظر التجول الذي استمر لـ17 يومًا على مدينة طولكرم، عاد الشيخ رياض بدير (55 عامًا) إلى منزله فحدثه أحدهم عن وحدة فصائل المقاومة في مخيم جنين؛ واستعدادها لإشعال الأرض تحت أقدام جنود الاحتلال إن حاول جيشهم اقتحام المخيم، فاتخذ الشيخ بدير قراره دون تردد وتسلل إلى المخيم المحاصر.
كان الشهيد رياض وخلال اجتياح مدينة طولكرم، قد انضم للمقاومين المدافعين عن مخيم نور شمس؛ حيث دارت معركة ضارية بين المقاومة وجيش الاحتلال في أحد الأحراش القريبة، وفي أحد أيام منع التجول وخلال محاولة الشيخ رياض الوصول لمنزله، خاض اشتباكًا مسلحًا مع قوات الاحتلال التي حولت منزله إلى ثكنة عسكرية واحتجزت عائلته فيه.
ويروي القسام نجل الشيخ رياض، أن قوات الاحتلال اقتحمت منزلهم مرات عدة، وكان يبدو من الاقتحام أنها عمليات اغتيال للشيخ، حيث كانت تطلق النيران بشكل عشوائي على أبواب الغرف في المنزل قبل دخولها.
في الثامن من نيسان، تمسمرت أم العبد بجوار الهاتف منتظرة اتصال زوجها لتبشره بقدوم حفيده الجديد، رن الهاتف وجاء صوته مستعجلا، "أدعوا لنا نحن الآن محاصرين"، ثم انقطع الاتصال. "اعتقدنا بداية أنه تم اعتقال الوالد، وانتظرنا لحين رفع الحصار عن مخيم جنين حتى تتضح الأمور... يوم 20/نيسان أبلغنا المقاومون أن والدنا استشهد". تروي ريما ابنة الشهيد رياض بدير.
المقاومان ابراهيم وعبد الكريم بسام السعدي (استشهدا فيما بعد) رافقا الشهيد بدير حينها، وأخذا على عاتقهما توصيل جثمانه إلى عائلته رغم الحصار المطبق على كافة القرى والمدن، فاتخذوا طريق الأحراش حاملين الجثمان مع مجموعة من أبناء المخيم على أكتافهم سيرًا على الأقدام إلى طولكرم، حيث وصلوا بتاريخ 22/نيسان وشيّع بما يليق به.
خلال حصار جيش الاحتلال لمجموعة مقاومين داخل منزل في مخيم جنين، أصيب الشيخ بدير برصاصة في قدمه، ولم يتمكن من معه من نقله أو إسعافه فيما كان هو عاجزًا عن التنقل. ونقل المقاومون لعائلته أنه بتاريخ 11/نيسان، جلس الشيخ بدير يقرأ القرآن بصوت مرتفع، ورفض أن يخرج مع المقاومين من المنزل فتركوه فيه، قبل أن يتخذ الاحتلال قرارًا بهدم المنزل على من فيه، حيث لم يعد قادرًا على المواجهة.
وينقل القسام رواية لأحد المقاومين الذين رافقوا والده موضحًا أنهم وجدوا جثمانه متحجرًا وهو يجلس القرفصاء بيده القرآن، وبيده الأخرى يتمسك بسلاحه، "عرض عليه المقاومون أن يتخفي بملابس نسائية ويخرجوه، إلا أنه رفض وأصر أن يخرج بكرامته أو أن يستشهد مكانه"، قال القسام.
"المقاومون رووّا لنا كيف كانوا يستمدون الروح المعنوية من الشهيد، كلما كانوا يشعرون بالضعف والاستسلام، كان يجدوه يقويهم ويدفعهم ويشجعهم... حتى أصبحوا يخجلون أن يضعفوا او يتراجعوا أمامه". تقول ريما، مشيرة إلى أنه وحتى بعد إصابته كان لا يتوقف عن تشجيعهم وقراءة القرآن لهم.
عاش عظيمًا كما استُشهد
مدرسٌ غير عادي كان الشيخ رياض بدير، حيث عمل لسنوات في سلك التعليم عندما كان بإدارة سلطات الاحتلال قبل تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى أن فصل بعد وصفه "بالمحرض"، فما كان يترك فرصة إلا ويذكر طلابه ومن حوله أن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين.
الشيخ رياض لم يستسلم لقرار فصله، بل خاض معارك قانونية ضد الاحتلال حتى استعاد عملة مرة أخرى، وما أن عادت منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو حتى فصل مرة أخرى وفقد عمله، فما يحاول إيصاله لطلابه لا يروق للسلطة، كما تقول العائلة.
لشهور طويلة اعتقل الشيخ رياض بدير داخل سجون السلطة الفلسطينية؛ حتى قصف جيش الاحتلال أحد مقرات الأمن في طولكرم في محاولة لاغتيال المقاومين المحتجزين فيه. وما أن سمعت ريما القصف حتى أسرعت للمكان، لتجد والدها وهو يخرج من تحت الأنقاض يضحك ويقول "غصبن عنهم اطلعت"، في إشارة لفشل الاحتلال في اغتياله.
ويروي القسام نجل الشهيد، أن والده في ذاك اليوم وصل المنزل أبيض اللون من آثار الغبار والركام؛ حتى لم تتعرف عليه العائلة، ليعلن من حينها الشيخ رياض انتقاله من مرحلة نشر فكر المقاومة في المدارس والمساجد إلى مرحلة العسكر، "فقد عمله في التعليم، إلا أنه كان يبحث عن أي عمل آخر حتى لا يقصر بحق أسرته، فعمل سائقًا على تكسي، وكان بائع خضار، كما عمل في مرزعة دجاج"، تقول ريما.
بثمانين ألف شيقل، باع رياض منزله الجديد وأرضه ومركبته التي يعمل عليها لإعالة أسرته، واشترى بندقية (M16) التي ما عادت تبارح كتفه، ليبدأ مشوارًا جديدًا وهو في عقده الخمسين.
يوضح القسام، "كنت طفلا لم أتجاوز 12 عامًا حينما كان يأخذني والدي معه إلى صلاة الفجر، وما أن تنتهي الصلاة، حتى يأخذني جانبًا ويعلمني كيف أفكك وأركب السلاح .. ربانا على حب الوطن وعلمنا أن المقاومة سبيل تحريره".
وتقول ريما، "استيقظت في إحدى الليالي لأجده يستعد للخروج من المنزل، كان يرتدي الزي العسكري.. تفاجأت كثيرًا وصدمت وكانت المرة الأولى التي أراه بهذا الزي"، مضيفة أن والدها في إحدى المرات ارتدى اللباس العسكري وذهب لاستديو تصوير قريب، "وعندما سألته عن السبب، قال لي أنه يريد أن يكون بوستر استشهاده وهو في اللباس العسكري".
الشيخ رياض كان من أوائل الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم إبان الانتفاضة الأولى، وأول من زج به في خيام سجن النقب، وتتحدث ريما عن إحدى الاعتقالات التي تعرض لها الشهيد وكانت في سجن جنين، حيث أخضع لتحقيق قاسٍ استمر لـ40 يومًا، لم يعترف فيها حتى باسمه رغم ما تعرض له من تعذيب، "أفرجوا عنه في الليل، عندما وصل المنزل لم نستطيع التعرف عليه، كان قد فقد الكثير من وزنه".
شيخا وواعظا كان الشهيد رياض، تروي ريما، "كان ذو روح مرحة وضحوكًا دائمًا، ويقول لي طلابه الذي علمهم أنه كان نموذجًا لهم في التزامه الديني وتواضعه وقربه من الناس، وهو ما شهدناه بجنازته المهيبة رغم أن الحصار والإغلاق كان مطبق على طولكرم".
ورغم شخصيته القوية العنيدة، إلا أنه كان شخصًا حنونًا على أبنائه السبعة، تبين ريما "كان حنون جدًا على بناته ويقسو قليلا على أبنائه الذكور لتكون شخصيتهم قوية، كان يمنحنا الحرية الكافة وكان يسعى لأن نكون متعلمات". مضيفة، "لا أنسى فرحته عندما تخرجت من الجامعة، وذهبت إليه بثوب التخرج والتقطت الصور معه لأنه لم يستطع حضور حفل التخرج بسبب الأوضاع".
10 سنوات مضت وعائلة الشهيد الشيخ رياض بدير لم تجتمع شتاتها، فهي تعيش معاناة الاعتقال المتكرر بحق أبنائه، ففترة يقضوها في سجون الاحتلال، وفترة أخرى في سجون السلطة.
نسأل ابني الشهيد ماذا لو أن والدهما عاش حتى هذا اليوم؟! وكيف سينظر إلى الانتفاضة الحالية؟!، يقول القسام، "هذا مستحيل، فحتى لو لم يستشهد في مخيم جنين لكان اغتاله الاحتلال فيما بعد". فيما تجيب ريما،" بالطبع هو مع المقاومة بكل أشكالها وسيكون مع الانتفاضة، ولكن لو لم يسشهد لتعرض لاعتداءات لا حصر لها".