كانت البداية مع والدة الشهيد عامر أبو عيشة من الخليل، الذي شارك مع رفيق دربه مروان القواسمة في أسر ثلاثة من المستوطنين شمال المدينة في حزيران 2014. ففي جنازته عقب اغتياله أبت والدته إلا أن تحمل جثمانه وتشيّعه بنفسها إلى قبره، رغم ما كان يكتنف لحظة الاغتيال المفاجئة من صدمة وحزن وفجيعة خلفتها تلك الحالة التي ترك إجرام الاحتلال الشهيد عليها، بعد أن حرقته قاذفاتهم وقنابلهم فشوّهوا معالمه.
بعد ذلك، تتابعت مشاهد مشاركة الأمهات في حمل نعوش أبنائهن الشهداء، وخصوصاً في مدينة الخليل، صاحبة الرصيد الوافر من شهداء هذه الانتفاضة، وكان المرء يطالع بين ثنايا الدم والأجساد المحمولة على الأكناف نماذج فريدة لنساء عاديات وغير مشهورات، لكنهنّ ارتقين مرتقىً صعبا، وقدّمن دروساً في غاية الجلال حول معاني التضحية والصبر والاحتساب.
رسالة الصمود والسموّ هذه لم تأتِ من فراغ، ولم تنتظم حروفها فجأة، بل تشكّلت نتيجة عقيدة راسخة ويقين متين وإدراك عمليّ بأن الشهيد حي عند الله، وأن المجاهد حين يقضي شهيداً يستحق فخر الأم واعتزازها، وهو ما لا يتناقض مع مشاعر الأمومة الفطرية في الأسى والحزن لرحيل الابن، لكنه يسلط الضوء على نوعية فريدة من النساء تفقه معاني الجهاد ومتطلباته، فعلاً لا قولا، ولا تجد ضيراً في أن تشيع ابنها بنفسها وهي موقنة بعظمة الشهادة وبركاتها، وبجزيل الثواب الذي ينتظر من يصبر ويحتسب ويتقبّل رحيل فلذة كبده في سبيل الله.
ورغم أن حزن الأم لفقدان ولدها أمر طبيعي ولا يقدح في عظمة تفهّمها لرسالة الجهاد ومتطلباتها، إلا أننا نجد من يتعامل مع هذه الظاهرة –في بعض الأحيان- تعاملاً آلياً، وخصوصاً وسائل الإعلام التي تركّز على قشور الظاهرة لا جوهرها، وتجري لترصد زغرودة أم الشهيد، وتحاول استنطاقها وهي في أصعب لحظاتها لكي تدلي بتصريح شكلي لوسائل الإعلام يخلو من العاطفة ويستجلب الإعجاب الشكلي أيضا.
إن كثيراً من المشاهد تكون كافية بذاتها لتدلل على مضامينها الجوهرية دونما حاجة للكلام، ومنها أن ترى أمّاً مكلومة تحمل جثمان ابنها، ومثلها أخرى لا تجتهد في حبس دموعها ولا تضطر لمراعاة أعراف الصورة الإعلامية، بل تتركها تنساب عند وداع ولدها، حتى وهي راضية محتسبة، ومعبّرة عن افتخارها بصنيعه، واعتزازها بأن أكرمها الله وجعلها والدة شهيد سينتظرها جزاء وافر في الآخرة.
إننا حين نُعلي من قدر تلك النماذج الفريدة من الأمهات أو الزوجات علينا ألا نتكلّف في تجاهل إنسانيّتهن، وألا نستسهل في الوقت نفسه رؤية مشهد الأم المتجلّدة وكأن خلافه يعني افتقاد من تبكي أو تظهر ألمها اليقين أو التسليم بقضاء الله أو وعي قيمة التضحية.
وما زلتُ أذكر والدة الشهيد (محمد الجعبري) من الخليل، الذي استشهد في بداية انتفاضة القدس بعد تنفيذه عملية طعن قرب مستوطنة (كريات أربع)، إذ كانت ملامح الألم العميق بادية عليها يوم تشييع ولدها، لكنها فيما بعد، وحين كانت تشارك في زيارة ذوي الشهداء اللاحقين كانت تفاجئك بعظمة يقينها وعمق كلماتها وهي تواسي أمهات الشهداء وتتحدث عن قيم الفداء والبذل في سبيل الله وما يتصل بهما من تضحية وصبر واحتساب.
فالمهم جوهر الرسالة التي تحويها ضلوع أمّ الشهيد، وتجلّيات مشاعرها وفهمها الحقيقية، وقبل كلّ ذلك تلك القيم التي أودعتها ابنها منذ صغره حتى غدا مقداماً لا يهاب الموت، وواعياً مسؤولياته الجهادية ومتطلّعاً لأن يكون له سهم في مسيرة المقاومة الطويلة، فالرجال الاستثنائيون لا ينجبهم ولا يربّيهم -في الغالب- إلا نساء استثنائيات.