لا تزال تداعيات وانعكاسات الاضراب الذي يخوضه معلمو المدارس الحكومية منذ عدة اسابيع تتدحرج شيئا فشيئا، وفي تدحرجها بهذه الصورة واستقطابها لاهتمام واسع من المجتمع بكل فئاته وشرائحه وهيئاته ومؤسساته انما تدق جرس انذار يؤشر لنا، وبصورة مكثفة وواضحة، على اننا نعيش كمجتمع حالة متدحرجة من التردي والاحتقان تقودنا الى منعطفات مجهولة وخطرة، سوف تؤدي بنا، لا سمح الله، الى حالة من حالات الانفجار الداخلي الذي قد تطال شظاياه كل جوانب ومجالات وفئات ومؤسسات مجتمعنا. ولم يكن ارتفاع وتيرة وحدة الجدل والنقاش الداخلي هيالدليل الوحيد على ذلك.
بل شهدنا خلال الايام الاخيرة ميل هذا الجدل الى اتجاهات اكثر عدائية وعدوانية من مجرد الاختلاف في وجهات النظر والمواقف. وحملت الايام الماضية جملة من الاحداث التي غلب عليها طابع "التهديد"، سواء بصورة مبطنة او صريحة. والتعبير الاخطر عن كل هذا التوجه هو ظهور بعض الحالات التي تم خلالها تسجيل حالات "عنف" او التهديد باستخدامه، وانتهاك للحقوق والحدود المتعارف عليها.
السؤال الذي يتبادر الى اذهان الكثيرين هو: هل قضية اضراب المعلمين ومطالبهم الحقوقية، مهما كانت درجة الاختلاف في وجهات النظر حولها، قادرة، او هي فعلا التي اوصلتنا الى الحالة التي وصفتها اعلاه؟!.
قبل الاجابة على السؤال، وفي سياقه فانه لا بد من تسجيل امرين اعتقد انهما في غاية الاهمية لكي نتمكن من الاقتراب اكثر من الوصول الى اجابه تسهم في تحليل الواقع.
الملاحظة الاولى تشير الى انه لا يمكن بحال من الاحوال الاستهانة، او التقليل من اهمية قطاع المعلمين، سواء من ناحية الحجم او الدور والفعل المجتمعي او امتداداته وعلاقاته وتاثيراته المتشعبة في كل المجتمع.
كما لا يمكن، ومن غير المنطقي اصلا، الاستهانة بحركة ومطالب عشرات الوف من المواطنين وتحركهم من اجل جملة من المطالب الحقوقية والنقابية التي تكفلها كل الانظمة والقوانين الانسانية. اي مدخل يتجاهل ذلك انما يسهم في تعقيد الامر وليس في تفكيكها. اما الملاحظة الثانية فهي تتعلق بالتوجه القائم على فكرة "المؤامرة"، سواء داخلية او خارجية. فليس من الصواب ابدا ادخال كل هذه الحركة المطلبية في "خُرُم" فكرة المؤامرة.
وهنا لا اود ان استبعد فكرة المؤامرة بصورة مطلقة، لان "المؤامرة" تتربص دائما في كل صغيرة وكبيرة في مجتمعنا. لكن لا يجب ان يغيب عن بالنا مقولة ان "الطفيليات لا تنمو الا في المياه الاسنة". اي ان حل ومعالجة المشكلات والقضايا كفيلة باغلاق الباب امام اي مؤامرة، مهما كانت، وتجاهل وجودالمشكلات انما هو الذي يبقي الباب مشرعا امام كل انواع المؤامرات والمتآمرين.
وبالعودة الى السؤال فان الاجابة الاولية سوف تشير الى ان قضية اضراب المعلمين هي نتيجة لما آل اليه وضعنا المجتمعي خلال السنوات الاخيرة، وليست سببا في ذلك. اما في وصف الحالة التي يعيشها مجتمعنا فانني ساكتفي بالاشارة الى بعض العناوين والامثلة الرئيسية، هذا طبعا دون اغفال جانب وجود الاحتلال وتاثيراته المختلفة التي تضيف مزيدا من التعقيد يحتاج الى معالجة وتحليل مختلف ومن زوايا مختلفة.
اولا: الانحدار المتواصل في مجمل البنى السياسية- الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع. سواء من ناحية القيم والاخلاقيات، او من ناحية السلوكيات والانظمة والاجراءات والهيئات والمؤسسات التي ترتبط بتلك القيم والاخلاقيات.
ثانيا: تفشي وانتشار العديد من الظوهر الاجتماعية كالعنف المجتمعي، على اختلاف اشكاله وانواعه، والمخدرات، التهريب والسرقات، التهرب والتحايل واحيانا التعدي والتطاول على القانون والنظام، الاتجار وتسويق السلع والبضائع الفاسدة، الواسطة والمحاباة وعدم المساواة، البطالة.. وغيرها من الظواهر السلبية.
ثالثا: تراجع وانحدار مستوى الاداء في الهيئات والمؤسسات الرسمية المختلفة، وقدرتها على تقديم خدمات ذات جودة مناسبة تلبي حاجات الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة، في العديد من القطاعات والمجالات. وتراجع مستويات الشفافية وغياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة على عملها، وهو ما يتسبب في زيادة فجوات "التواصل" مع قاعدة اخذة بالتوسع من جمهورها.
رابعا: تراجع متزايد في دور الاحزاب والنقابات ومختلف المؤسسات التي تندرج تحت مسمى "مؤسسات المجتمع المدني"، التي باتت تعاني من حالة اشبه ما تكون في محاولات مستمرة للحفاظ على الذات او الوجود، عوضا عن الدور الذي يتوقع منها القيام به في قيادة الفئات والشرائح التي تمثلها خلال نضالها من اجل التاثير في السياسات العامة، وتوجيه بوصلتها الى اتجاهات اكثر استجابة وتلبية لحاجاتها ومطالبها.
خامسا: تراجع وتاكل "الشرعيات" على كل المستويات، نظرا لتراجع مستوى الحريات العامة وحرية التعبير والديمقراطية والانفتاح والشفافية، وغياب التجديد وبث روح الحيوية في مختلف مستويات القيادة، وهو ما ادى الى الكثير من التساؤلات ليس فقط على شرعية وجود واستمرار القيادات، بل وصلت التساؤلات احيانا الى شرعية وجود المؤسسات نفسها، وقدرتها على تمثيل والتعبير عن مصالح وحاجات الشرائح والفئات الواسعة من المواطنين.
سادسا: تراجع، بل وغياب الكثير من المفاهيم الهامة وتطبيقاتها العملية الضرورية لوجود حالة من السلم والامن والهدوء المجتمعي كمفاهيم الحرية، العدالة، المساواة، تكافؤ الفرص.. وغيرها من المفاهيم التي تقدم للافراد والجماعات حالة من حالات الاستقرار والامل بامكانية التقدم والتغيير نحو الافضل.
ليس القصد من الامثلة والعناوين الرئيسية التي ذكرتها اعلاه هو خلق حالة من التشاؤم وانعدام الامل، ببساطة لان هذه الحالة قائمة وموجودة اصلا لدى اعداد متزايدة من المواطنين، ونجدها منتشرة في اوساط هامة في مجتمعنا. وسرعان ما نلاحظها خلال حواراتنا واحاديثنا في محافل كثيرة من خلال تساؤل يبرز بصورة اشبه بالتلقائية حول "الاتجاه الذي تتجه اليه البلد؟!". وانما الهدف من مقالتي هذه هو تسليط ضوء مكثف اكثر حول الاسباب والمسببات، وخلق حالة من الجدل الداخلي التي تستند الى منطلقات اكثر واقعية وعملية في رؤية منابع وجذور المشكلات والازمات، وبالتالي تعزيز القدرة واحتمالات النجاح في ايجاد المخارج الصحيحة والمناسبة للخروج منها.
وقد تكون قضية اضراب المعلمين علامة فارقة هامة، لكنها قطعا لم تكن البداية. بل ان المظاهر المختلفة لهذه الحالة تتراكم منذ فترة طويلة، تختمر وتنعكس على شكل ازمات وقضايا لا تكاد احدها تختفي حتى تطل اخرى براسها، فمن اضراب واحتجاجات طلبة و/ او موظفي الجامعات الى سائقي السيارات، الى الباعة المتجولين مرورا باصحاب المخابز والعاطلين عن العمل والمزارعين والتجار والمهنيين والمدافعين عن حقوق الانسان والصحفيين والمرضى، وليس انتهاءا بالموظفين في القطاع العام او الخاص او الاهلي او حتى الاسرى المحررين، والقائمة طويلة على امتداد السنوات الماضية.
خلاصة القول انه من الصعب النظر الى موضوع اضراب المعلمين وتداعياته المختلفة بعين واحدة ومن بُعدٍ واحدٍ فقط. انها في اعتقادي قضية خطيرة، ولا تتمثل في الاستجابة لمطالب المعلمين وتلبيتها، فهذا يمكن ان يعالج الوضع الاني فقط، ولا يلامس الحلول والمعالجات الجذرية للازمات المختلفة.
ناهيك عن الاتجاه الذي يمكن ان تجري فيه الامور في حال الاصرار على عدم الاستجابة وايجاد حلول ومعالجات، ولو حتى انية، حيث من المتوقع ان يكون هناك انعكاسات وتداعيات سلبية ربما يصعب حصرها في المستوى المنظور. ليس هناك ادل على هذا الخطر من تداعي ومبادرة الكثير من الفعاليات المجتمعية كالنقابات، البلديات، احزاب وقوى سياسية، مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، المجلس التشريعي والكتل البرلمانية، اولياء امور طلبة وفعاليات اخرى كثيرة، وليس اخرها الاسرى في سجون الاحتلال ودخولها على خط طرح مبادرات وحلول لايجاد حلول ملائمة لهذه القضية.
في اعتقادي ان كل هذه المؤشرات انما تدعم المقولة بان قضية اضراب المعلمين وملابساتها وتفاعلاتها ليست الا تعبيرا عن حالة احتقان داخلي تتطلب اقصى درجات اليقظة والحذر في معالجتها ووضع الحلول الجذرية والمناسبة لها.