رام الله – خاص قُدس الإخبارية: وقف المعلمان في حضرة طالبهما الذي لن يحييهما بابتسامته الخجولة بعد اليوم؛ فهاهما ولأول مرة يلتقيان به دون أن يراجعا معه درس الرياضات أو يجيبانه عن أسئلته الصعبة التي يطرحها دائما.
الجميع غادر المقبرة تاركين الشهيد خلفهم، فيما بقي أصدقاؤه الأربعة ومعلماه اللذان حرصا على الوقوف بعيدا لعدم رؤية التراب وهو يغيب جسد تلميذهما؛ اقتربا من منزله الجديد غير واضح المعالم لكثرة الورود التي تغطيه، قاما بقراءة سورة الفاتحة، ثم همسا له ببضع كلمات وغادرا وهما يفكران، "كيف سندخل المدرسة غدا وهو ليس فيها؟ كيف سندخل صفه ونرى مقعده خاليا؟".
محمود محمد شعلان (15 عاما) لن يعود لمدرسته بعد اليوم، ففي 26/شباط اغتاله جنود الاحتلال خلال مروره بالقرب من حاجز بيت إيل شمال شرق رام الله، واتهمته بمحاولة تنفيذ عملية طعن، فيما أجلت العائلة تشييع جثمانه لحين عودة والده وشقيقه من الخارج، حيث ودعه الجميع الوداع الأخير اليوم الأربعاء (2/آذار)؛ ثم زرعت العائلة في الكوفية التي لف فيها ثلاث وردات حمراء وقبلة أخيرة.
محمود ولد في الولايات المتحدة الأمريكية وعاش فيها سنين طفولته الأولى، قبل أن تعود والدته به وبأشقائه إلى قريته دير دبوان شرق رام الله، لتربيهم على التمسك بالوطن والدين الإسلامي، ولتبقى اللغة العربية طليقة على لسانهم.
هادئا، متفوقا، ذكيا، خلوقا، هكذا يُجمع في وصف محمود كل من عاش معه وعرفه، وهو أيضا صاحب الشخصية الغامضة الحريصة على خط حدود علاقاته مع من حوله، حدود تحافظ على خصوصيته وتحترمها.
عمار عبد القادر أستاذ الرياضيات يدرس محمود منذ ثلاث سنوات، يقول، "محمود من الطلاب المتفوقين الممتازين، وهو طالب مهذب جدا.. كان مثالا للطالب المجتهد والمؤدب، فكل الصفات الجميلة كانت مجتمعة فيه".
مَرِحًا بشوشا كان محمود، لا يلقى زميلا أو صديقا أو معلما دون أن يسلم عليه ويمازحه، "ذكريات كثيرة لي مع محمود.. كان متعاونا جدا، حريصا دائما على مساعدة زملائه وأساتذته"، يقول المعلم عمار.
ويبين الأستاذ عمار، أن محمود لم يكن تلميذا فقط، بل كان يحب دائما أدء دور المعلم، فيتناوب مع أساتذته على شرح الدروس، ويراجعه زملاؤه ليشرح لهم مسائل الرياضيات، "كانوا التلاميذ يحكولي إنهم بفهموا من محمود الرياضيات بشكل أفضل.. إضافة إلى أنه كان يساعد الطلبة بمشاريعهم العلمية".
وكان محمود يحلم أن يصبح طبيب، وهو ما دفعه للاهتمام بمادة العلوم، يقول أستاذه، "كان حلمه كبير، ويقول لي دائما سأصبح طبيب لأعالج المرضى والجرحى وكل من يحتاج لعلاج".
ويروي الأستاذ عمار أنه كان دائما يعود لتلخيص محمود لدروس الرياضات، "كان دائما يقول لي أنه يريد أن أعطي دفتره للطلاب ليستفيدوا منه"، مضيفا، أنه في نهاية الفصل الأول جاء محمود إليه بدفتره وطلب من الاحتفاظ به كذكرى منه.
سيعود الأستاذ عمار لشرح مادة الرياضيات من جديد لصف محمود، إلا أنه لن يجد تلميذه الذكي الذي يعتمد على تلخيصه ومساندته في الشرح، "العودة للمدرسة ومحمود ليس فيها شيء صعب جدا لي ولأصدقائه ولزملائه".
أما الأستاذ أديب ناجي فقد درس محمود في المرحلة الابتدائية قبل أربع سنوات، يقول، "محمود كان نعم الطالب المجد الخلوق المهذب.. كان محبا لمن حوله، فأحبه الجميع"، مضيفا، "هو خسارة للمدرسة وللقرية ولنا جميعا.. لذكائه وتفوقه وأخلاقه".
وعن طفولة محمود يتحدث الأستاذ ناجي قائلا، "كان مرحا جدا، يحب المزح واللعب مع زملائه وأصدقائه في المدرسة.. كما كان يمزح دائما معي ومع باقي أستاذته.. كانت ابتسامته تمدنا بالأمل".
يوسف فرناندوا صديق وقريب الشهيد محمود، اعتاد دائما مرافقته في الطريق للمدرسة ذهابا وإيابا، يقول، "محمود استشهد، سأذهب لوحدي إلى المدرسة وأعود منها لوحدي أيضا دون محمود".
ويضيف يوسف، "كان محمود لا يجرح أحدا، ولا يؤذي أحدا.. منذ أن عاد من أمريكا قبل 10 سنوات ونحن نقضي أوقاتنا معا ولا نفترق؛ ورغم أن محمود كان يخصص الوقت الأكبر للدراسة، إلا أنه كان محبا للألعاب الالكترونية وحريصا على مواكبة الجديد منها.
الساعات الأخيرة لمحمود قبل استشهاده قضاها في مسجد القرية، حيث التقى بصديقه موفق جبر الذي قال عن تلك اللحظات، "التقينا في الصلاة معا، ثم شاركنا في جنازة إحدى نساء القرية.. كان كطبيعته ولم يختلف عليه شيء، لأصدم المغرب بسماع نبأ استشهاده".
ويضيف، "كان محمود لطيفا مع الجميع لا يؤذي أحد، كان يحب المساعدة خاصة في شهر رمضان حيث كان يساعدنا في المسجد في توزيع الماء على المصلين".
فيما يروي أمير مصبح وعبد الجابر وجيه، وهما صديقان للشهيد محمود، أنه كان يسأل أصدقاءه في المدرسة مؤخرا عن كتب الصف العلمي، حيث اتخذ قرارا بدراسة الطب وحسم أمره على ذلك، ويقولان، "كان متفوقا جدا، يحصل على شهادة تميز دائما، كان يحب الدراسة ويقضي معظم وقته بمراجعة دروسه".
ويضيف أمير، "كان بسيطا ومتواضعا، وحريصا على أن لا يؤذي أحدا، كما أنه كان محبا للبلد، والكل من البلد يحبه"، مشيرا إلى أنه كان محافظا على صلاته حريصا أن يؤديها في المسجد.
"سامحوني" قال محمود لأصدقائه قبل أيام من استشهاد، وهي كلمة حَرِصَ أن يكررها عند كل موقف، ليرحل محمود تاركا لجيله أخلاقه وأحلامه التي لا بد أن تثمر غدا.