نجح جهاز المخابرات الاسرائيلية، "الشاباك" بعد الانتفاضة الأولى، بتقليص العمر الافتراضي للخلايا أو الأفراد الذين ينفذون هجمات من فترة تترواح في المعدل العام بين عدة شهور وأحيانا لسنوات عديدة، إلى عدة أيام وأسابيع في الانتفاضة الثانية بشكل عام مع وجود استثناءات معدودة. رغم أن قدرته على اعتقال الفلسطينيين تقلصت بشكل كبير خصوصًا في قطاع غزة، وعلى نحو أقل في الضفة الغربية بعد أن تحول تنفيذ عمليات اعتقال داخل المدن الكبرى إلى مهمة معقدة جدًا، وفي ظل كم غير مسبوق ومفاجىء من الخلايا والأشخاص الذين انخرطوا في تنفيذ هجمات في تلك الفترة.
"الشاباك" قلص العمر الافتراضي لتلك الخلايا بفضل العنصر التكنولوجي، فتلك الفترة شهدت اتساع نطاق استخدام الهواتف الخليوية، وكان الاعتقاد السائد لدى قطاع واسع من الفلسطينيين أن تغيير الهاتف أو شريحته إجراء يؤدي لتضليل "الشاباك"، ومعظم الخلايا استخدمت الهواتف الخليوية في الاتصال أو كان عناصرها يحلمون هواتف خلال مرحلة جمع الملعومات في المكان المستهدف. ببساطة كان "الشاباك" يسترجع المعطيات التي كانت تكشفها له الهواتف الخليوية فيحدد الاشخاص الذين تواجدوا في مكان الهجوم قبل شهور.
صحيح نجح "الشاباك" خلال الانتفاضة الثانية في تحديد هوية منفذي الهجمات بسرعة قياسية، ولكنه مع ذلك لم يكن متاحًا أمامه اعتقالهم، وكان يلجأ إلى الاغتيال لأنهم في العادة كانوا يلجأون إلى عمق المدن الكبرى حيث يصعب اعتقالهم، ولكن بمجرد تحديد هوية المنفذين كان يتحول الجزء الأكبر من جهودهم إلى البحث عن مخابىء والتخفي ما كان يقلص قدرتهم على تنفيذ هجمات جديدة.
بعد الإنجازات التي حققها "الشاباك" بفضل العنصر التكنولوجي خلال الانتفاضة الثانية، ضاعف الجهاز من جهوده لتطوير قطاع التكنولوجيا في جمع المعلومات سواء عبر التنصت على الهواتف أو البريد الالكتروني وفي مرحلة أخرى التصوير عبر نشر الكاميرات السرية أو كاميرات التي تثبّت في المناضيد وطائرات الاستطلاع، وبالاستعانة بعناصر أخرى قُلِّص العمر الافتراضي لمن ينفذ أي هجوم بل إن الإمر وصل إلى الاعتقال قبل التنفيذ أو خلال فترة تشكيل الخلية.
هذه الصورة فتحت الطريق أمام "الشاباك" لتصوير نفسه أمام الإسرائيليين وحتى أمام أجهزة أوروبية أخرى على أنه "القادر على كل شيء"، فجاء المتدربون من أصقاع الدنيا لاستلهام تجربته، ولكن كل إجراءات "الشاباك" رسبت حتى الآن في امتحان "قناص الخليل" الذي نفذ هجومه الأول قبل ما يزيد عن عامين، عندما قتل برصاصة واحدة جنديًا وانسحب بسلام، في منطقة يسيطر جيش الاحتلال على مداخلها من الجهات الأربع وينشر فيها مئات كاميرات المراقبة.
بعد الهجوم الأول قبل ما يزيد عن عامين لـ "قناص الخليل"، كرس "الشاباك" وجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" جهودًا ضخمة لتحديد هوية القناص لاعتقاله، وفي ذلك الإطار، تم تحليل سجلات المئات من الكاميرات المنشورة بالخليل و تحليل عشرات الآلاف من المكالمات الهاتفية لأشخاص تواجدوا في مكان الهجوم منذ شهور طويلة إلى جانب تحليل ذبابات الهواتف التي دخلت تلك المنطقة، والتحقيق مع العشرات من المشتبه بهم وتفتيش منازلهم، كل ذلك لم يحقق أي انطلاقة في التحقيق.
مع استمرار الفشل أطلق جهاز "أمان" مناطيد تحمل كاميرات دقيقة تصور على مدار الساعة "حارة أبو سنينة" التي يُطلق منها القناص، بعد هذا الإجراء تحالف "قناص الخليل" مع الغيم فكرر هجماته عندما تسود في الأجواء غيوم منخفضة تحجب الرؤية عن الكاميرات.
في هجماته الأخيرة نفذ "القناص" في مناسبتين هجومين في يوم واحد في نفس البقعة الجغرافية بفاصل ساعات رغم الاستنفار الكبير الذي أعقب الهجوم الأول، وهذه الحقيقة تظهر واحدة من صفات يصعب تجاهلها لمن يرسم ملامح شخصية القناص من علماء النفس التابعين لـ"الشاباك"، وهي التصرف ببرودة أعصاب في اللحظات العصيبة، بالإضافة إلى انتظاره الغيوم المنخفضة على أحر من الجمر، وشغفه بالأرصاد الجوية.
من الناحية الاستراتيجية تتعدى الخسائر التي ألحقها "قناص الخليل" بإسرائيل عدد القتلى أو الجرحى، فهو أصاب "الشاباك" و"أمان" بجراح منذ أكثر من عامين، وقادة الجهازين يدركون أنه الشخص الوحيد الذي قتل وأصاب جنودًا إسرائيليين بجراح منذ عامين وينعم بحريته حتى الآن، وطواقم الجهازين تواصل العمل بلا كلل أو ملل منذ الهجوم الأول والنتجية صفر.
الرعب الذي يثيره تحالف قناص الخليل مع الغيم لا يقتصر أثره على مئات الجنود العاملين بالخليل أو ذويهم وإنما يتعدى ذلك إلى المستوطنين الذي صاروا يخشون الغيم المنخفض أيضًا، وشعورهم بإخفاق "الشاباك" و"الجيش" في مواجهة القناص ضربة معنوية للمستوطنين.
في الدرس الأول في دورة الضباط يتعلم رجال "الشاباك" أن قوة أي خلية أو تنظيم أو حتى أي مهاجم منفرد لا تكمن في عددها أو عدتها فقط، وإنما في قدرات وإمكانيات العدو التي ينجح المهاجم بتحييدها في أي مواجهة، هذا ما يضاعف خطورة "قناص الخليل" في عيون "الشاباك" فبقاؤه طليقًا دفعة معنوية لجيل جديد من فلسطينيين لم يروا بطلا بمثل هذه المواصفات، ومن بين هؤلاء من لن يكتفي بالإعجاب والتقدير، وإنما سيخطط للسير على ذات الطريق.
* هذا المقال نشر أولا على موقع "ألترا صوت"