النُصيرات - خاص قُدس الإخبارية: على بُعد 100 متر تقريبًا، ومن رأس الشارع الطويل المؤدي إلى "حارة العودة التراثية" تبدأ عيناك تلمح ألوانًا شرقية مميزة ربما لن تُحدد بالضبط المكتوب على الجدران عن بعد، لكن أذنك بالتأكيد لن تخطأ التقاط لحن الدحية الفلسطينية التي عُزفت ألحانها أمام الخيمة التراثية في بوابة الحارة.
بهجة بالغة ظهرت على وجوه الفتية والفتيات وهم يتنقلون بابتسامة بين أزقة الحارة التي امتلأت جدرانها بالألوان، إضافة إلى رسوماتٍ وطنية وتراثية عكست حسًا وطنيًا وإضافة جديدة كانت تتميز عما سبق مشاهدته.
مبادرات عدة شهدتها أحياء في مدينة غزة ابتداءً بحي الزيتون والمتنزه البحري ومخيم الشاطئ وصولًا إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، لكنها كانت مختلفة عن أي مبادرة لتلوين الجدران، فهذه المبادرة كانت قائمة على "الطابع الوطني بشكلٍ أساسي".
انبثقت فكرة المبادرة (لوّن دارك) من مجموعة من الفتيات اللواتي تلقين تدريبًا على المواطنة الفاعلة بتزيين حي من أحياء المنطقة الوسطى، وهو ضمن مشروع مركز العائلة الذي ينفذه مركز العمل التنموي معا ضمن طاقم من الفنانين بمجموعة باليتا للفن التشكيلي.
منسقة مركز العائلة نجوى الغصين أوضحت أن الفكرة نابعة من مجموعة من الفتيات بتلوين الحارة وتزيينها، ثم تطورت الفكرة لحظة اختيار المنطقة وأهالي الحي الذي أبدوا تفاعلهم ومنحوها طابعًا تراثيًا فلسطينيًا بشكل أكبر.
"حارة العودة"، هكذا سميت بالإجماع وفقًا لرغبة أهالي الحي بالدرجة الأولى وموافقة القائمين على المشروع الذين رأوا فيه قيمة أصيلة للتأكيد على حق العودة وتأكيد هويتنا الفلسطينية وتراثنا الفلسطيني.
وأضافت الغصين لـ قُدس الإخبارية، أن المبادرة تحمل رسائل عدة، منها "أننا كفلسطينيين متمسكين جدا بحقنا في العودة ومؤمنين بدور المرأة في تفعيل القضايا خاصةً قضايا المرأة الفلسطينية باعتبارها جزءا من هذا المجتمع وتعاني المشكلات ذاتها التي يُعاني منها الفلسطيني بالداخل والخارج.
وتؤثر الألوان على الجانب النفسي اضافةً إلى أن هذه الحارة كانت تتخذ طابعًا بسيطًا جدًا، ارتدت ثوب الحياة، التي عززت قيمًا جديدة خاصة للأطفال فيها، فلا يوجد متنزهات ومساحات فارغة للعب، أصبحوا بعدها يأتون للحارة يلعبون بمحافظة شديدة منهم، وهو ما عزز إصلاح السلوك على السلوك وزرع فيهم قيمة الجمال والنظافة معًا.
التجاوب كان كبيرًا من الأهالي الذين فرحوا بتغيير "زقاقهم" القديم وجدرانه المتهالكة وتحوله إلى منطقة يعودها الزائرون بعد أن رممت واجهته وزينت جدرانه بالعبارات والرسومات الوطنية، حيث قدم الأهالي ما يصلح لديهم من مستلزمات ووفروا موادًا مساعدة للتزيين كالمطرزات والفخار وبعض المواد التي تم إعادة استخدامها مرة أخرى وتجميلها.
فالسيدة فوزية (57 عامًا) من سكان حارة العودة بدت مبتهجة وهي تصف فرحتها بتواجد الزائرين وبتنفيذ المبادرة في حارتهم، التي اعتبرتها متنفسًا للأهالي وتشعرهم بوجود من يهتم فيهم ويقدرّهم وتفتح آفاق إبداعية لديهم.
وأكدت لـ قُدس الإخبارية، أن هذه المبادرة لم تصنع لهم بيتًا جميلًا لكنها صنعت لهم حيًا يحمل حقًا من الثوابت الوطنية، وهذا أهم ما يمكن أن تحققه مبادرة مجتمعية على الإطلاق، مضيفة "نحاول أن نصنع من أبسط الأمور رموز تدلل على تراثنا القديم وتعزز فكرة العودة"
تشير بيدها مهللة بعد أن أطلقت زغرودة قالت إنها ستعاود زغردتها حين تتحقق عودتنا لأراضينا وإن كان منا لا يتقن الحديث لأولاده عن العودة فهذه المنطقة شاهدًا على ذلك، مضيفة، "الأولاد واعيين لحقهم في العودة"، فالصغار توارثوا حق العودة من أجدادهم جيل بعد جيل وهم حقًا على وعي تام بقيمة وأهمية تراثهم الوطني.
وفي دلالة على عراقة الشعب الفلسطيني، تقول المختارة فاتن حرب، وهي ضمن المدعوين لافتتاح الحارة التراثية، ان الألوان التي تزين الحارة تثبت أن الشعب الفلسطيني شعب مُحب للحياة وليس كما يشبهه الاحتلال على أنه شعب إرهابي، على العكس هذه الحارة هي رسالة للعالم بأننا شعب محتل نحب الحياة ونعشق أن نعيش بحرية ككافة الشعوب.
وأوضحت حرب لـ قُدس الإخبارية، أن المبادرة تثبت للعالم بأننا قادرون على المحافظة على تراثنا الفلسطيني والحفاظ على هويته ومواكبة التطور والحفاظ على الطقوس والعراقة الفلسطينية، وأن تكرار مثل هذه المبادرات في مخيمات اللاجئين تحديدًا التي يخصها طابع سياسي واجتماعي صعب يعزز قيم الجمال والحياة وفيه استمرارية لحالة النضال، مضيفة، "نحنُ الفلسطينيين شعبٌ مسالم ولكننا ما زلنا ندافع عن حقوقنا ونطالب بها بلا تنازل"
جميع المبادرات السابقة اقتصرت على التلوين والزخارف الغربية، لكن هذه المبادرة بحسب الفنان المشارك محمد عوض أضافت لمسة التراث الفلسطيني، فيقول، "قمنا بعمل بعض المعلّقات والمطرزات التراثية وهناك بعض من مخلفات الصواريخ الإسرائيلية استخدمناهم كمزهريات."
وأضاف عوض، "صنعنا من بعض النحاس المتبقي منهم أجراس أمام البيوت وهي بذلك تدلل على أننا نصنع من الموت حياة، فنحن فنانين نعيش الواقع الفلسطيني ومجبولين على الطابع الوطني التراثي، واختيار الألوان على أن تكون ألوان شرقية رغبةً منّا في إعطاء الناس أمل بالحياة وفرحة".