رام الله – خاص قُدس الإخبارية: بسيارته الصغيرة كان يلعب ساجد ذو الثلاث سنوات، يطلق أصواته الطفولية، يضحك ويناغي، وبعد أن مل من اللعب وحيدا قرر إشراك الحضور الصامت بلعبته فأخذ يمررها على ووجوههم المبللة بالدمع، محاولا إضحاكهم.
قبل ساعات، كان قد استرق ساجد السمع إلى الأحاديث المتناقلة وسط الحضور الضخم الذي يراه لأول مرة في منزله، كلها تدور عن شقيقه الأكبر أنس وسيارته الجديدة وعدد من الجنود، ولأنه لطالما كان يقلده بكل شيء، فأراد أن يقلده هذه المرة أيضا بلعبته الصغيرة.
ألقى السلام عليهم وأطمأن على حالهم – كان قد غاب عن المكان لشهور عدة منفذا الوعد الذي قطعه لوالده- وانطلق عائدا كما قال إلى "صالون الحلاقة"، توقف للحظات، حيث كانت أولوية المرور لإحدى المركبات القادمة، فيما جنود الاحتلال مازالوا يحدقون في الشبان من بعيد، ويخططون للبدء بقمعهم قبل بدء المواجهات.
الساعة الثالثة إلا ربع من عصر يوم الجمعة (4/كانون أول)، تقدم أنس بمركبته، توقع الجميع أنه سيقوم "بالتخميس" أمام الجنود كما يفعل باقي الشبان بسيارتهم ودراجاتهم النارية لاستفزاز قوات الاحتلال، فيما بقي أكثر من 10 جنود واقفين مكانهم بلا حراك، لتكون حينها المفاجأة بأن أنس أخذ قراراه الأخير بتنفيذ عملية دهس بطولية ليرتقي إثرها شهيدا.
[caption id="attachment_79949" align="aligncenter" width="600"] جنود الاحتلال يحيطون بمركبة الشهيد أنس[/caption]"وقف قليلا معنا، وبعد أن ألقى علينا السلام سأل عن حالنا وعن وضع المواجهات، مازحنا قليلا، وقال إنه سيعود الان لصالون الحلاقة" يروي أحد المتظاهرين، مضيفا، "اتجه أنس بسيارته نو الجنود الذين كانوا يحاولون التقدم وقام بدهسهم، حيث رأينا أكثر من أربعة جنود أصابتهم السيارة بشكل مباشر".
صليات من الرصاص أطلقت تجاه أنس بعد تنفيذه العملية، ليرتقي شهيدا من على شجرة اللوز التي احتضنته ومركبته، يقول المتظاهر، "أنس لا يأتي إلى المواجهات بالعادة، نادرا أن نراه هنا"، مضيفا، "هو شاب بسيط ومؤدب، كانت يعامل الجميع بلطف شديد، الكل كان يحبه، كما هو يحب كل الناس ويحترمهم".
سيارات إسعاف إسرائيلية عسكرية هرعت للمكان لتباشر تقديم الإسعاف للجنود المصابين، فيما ترك أنس ينزف حتى ارتقى شهيدا، كما دفع الاحتلال بتعزيزات عسكرية للمكان من ضباط اسرائيليين وأجهزة مخابرات طوقت مكان العملية.
يروي المسعف يحيى حماد، "الساعة الثالثة إلا خمس دقائق وردنا اتصال عن وجود جريح فتوجهنا مباشرة إلى المكان، إلا أن الجنود رفعوا أسلحتهم في وجوهنا وأجبرونا على مغادرة المكان وسط إطلاق الشتائم والكلمات البذيئة".
لم تسلم طواقم إسعاف البلدة محاولة مرات أخرى الوصول إلى الشهيد عسى لانقاذه، "حاولنا مرة أخرى إلا أن الجنود أطلقوا تجاهنا الرصاص المعدني بشكل مباشر ما ألحق أضرارا بسيارة الإسعاف".
صرخت، "بدي ابني، بديش يوخدوا أعضائه، بديش يستفيدوا منه أشي"، فالأم ما زالت مصدومة بنبأ خطف رصاصات الاحتلال لنجلها الأكبر، نجلها الذي كرر على مسمعيها كثيرا في اليومين الماضيين كلمة "سامحيني يما"، كما بات يتصل عليها كثيرا، وكلما دخل أو خرج من المنزل يقبل وجنتها ويديها.
تروي أم أنس، أنه وقبل خمسة أيام اشترى نجلها الشهيد مركبة غير مرخصة بعد أن أدخر ثمنها خلال الأشهر الماضية، إلا أنه وبعد أن اشتراها لم يحضرها للمنزل، وواصل خروجه للعمل مشيا على أقدامه، "حكتله شكلك بتضحك علي وما اشتريت السيارة؟ ليش ما بتجيبها؟ حكيت لأبوه ابنك بضحك علي".
"ابني شهيد، ابني شهيد، فدا الوطن، راح عنده ربه، راح عند الرسول"، تردد مجددا أم أنس، مضيفة،" راح أنس وأخذ قلبي معه".
يوم الخميس كان قد قرر أنس أن يصوم ويعود ويتناول الإفطار مع عائلته، "ٌصلى الفجر وطلع على شغله، وبعدين راح على صلاة الجمعة، وما أشعرنا بأشي، بس كان يضل يقول سامحيني يما".
يده بيد والده، زرع أنس أشجار الليمون والبرتقال في محيط منزلهم - حديث البناء- وكان قد تعلم من والده مهنة الحلاقة، ليساعده في "الصالون" الذي لا يغادره إلا نادرا، وعندما أعاد الاحتلال اعتقال والده تحت بند الاعتقال الإداري، تحمل أنس كامل المسؤولية عن العمل والعائلة.
[caption id="attachment_79951" align="aligncenter" width="600"] أشجار ليمون وبرتقال زرعها أنس مع والده[/caption]الأب المكلوم حاول مرارا وتكرارا الوصول إلى جثمان نجله، يتقدم يطرده جنود الاحتلال، فيعود للوراء، ثم يتقدم مجددا لعله يراه، "كان أنس يحمل هم هذا الوطن، لم يكن يرضى بتدنيس المسجد الأقصى، وبالاعتداء على المرابطات فيه، كما لم يكن يرضى بكل هذا الظلم الذي نمر فيه"، مضيفا ،"أنس أراد أن ينضم لقائمة الشهداء، ونال ذلك".
"لطالما كان أنس حريصا على إرضاء والده، فلم يعد يدخن بعد أن نهاه والده عن ذلك، كما توقف عن المشاركة في المواجهات بعد قطعه وعدا لوالده الذي خاف من فقدانه"، يؤكد محمد عبد الناصر صديق الشهيد.
عدد كبير من شبان البلدة يرتادون الصالون وخاصة يوم الخميس، ويفضلون الحلاقة على يد أنس، فهو شاب خفيف الظل ولطيف، لا يزعج أحدا بكلام جارح ويحترم الجميع، كما له لمسة مميزة يتركها عليهم، "خرج فجأة من الصالون، وقال لنا أنه سيصل منطقة المواجهات ويعود، وبقينا هنا ننتظره حتى وصلنا نبأ استشهاده"، مضيفا، "كان سعيد جدا ويتصرف بطريقة طبيعية كما اعتدنا عليه".
[caption id="attachment_79950" align="aligncenter" width="600"] صالون الشهيد أنس[/caption] [caption id="attachment_79948" align="aligncenter" width="450"] صورة معلقة في صالون الشهيد أنس[/caption]وتابع صديق الشهيد، "أنس كتوم، يعمل دون أن يتحدث، محبوب للجميع، كان يرافقني لخارج البلد أحيانا وعندما نمر عن قوات الاحتلال يقول أعوذ بالله منهم ، فكان يتشاءم من رؤيتهم".
عبد الحميد حامد الذي لم يستوعب بعد استشهاد صديقه أنس قال، "فجأة قالوا لنا أنس استشهد، ذهبت للمنطقة، فأخبروني أن أنس نفذ عملية دهس" يكرر عبد الحميد ذات الجملة ، مضيفا، "أنس بنحطه على الجرح بطيب، أنس أحسن شب في البلد، أنس بطل، أنس الآن شهيد".