قلت في أكثر من مقالة بأن من شروط استمرار وتطور وتصاعد الهبة الشعبية هو وجود بيئة وحاضنة شعبية، فبدونها يبقى العمل في الإطار النخبوي والفوقي، فالحاضنة الشعبية للانتفاضة أو الهبة أو الغليان او التمرد، هي بمثابة الماء للسمك، ولذلك فإن تجربة مخيم شعفاط واحدة من التجارب في سفر النضال الوطني التحرري الفلسطيني التي تستحق أن تعمم وأن يستفاد منها في أكثر من موقع ومجال.
والمسألة ليست مقتصرة على تضافر وتكاتف الجهد الشعبي في تأمين بيت مؤقت لأسرة الشهيد ابراهيم العكاري، وتصميم أهل المخيم بمختلف قطاعاته ومكوناته ومركباته المجتمعية والسياسية وفي المقدمة منها الشبابية على إزالة ركام البيت المفجر وإعادة بناءه من جديد، بل وأيضاً هنا وجدنا بأن القطاع الخاص لعب دوراً في عملية توفير مستلزمات وإحتياجات البيت من أثاث وادوات كهربائية وما يحتاجه من وسائل وادوات كي يصبح جاهزاً للسكن وفي زمن قياسي، وهذا يؤكد على الحاجة الى توسيع القاعدة الشبابية في الهبة الشعبية،لكي تشمل قطاعات وفئات أخرى من شعبنا الفلسطيني.
جيش الاحتلال عجز اكثر من مرة عن اقتحام مخيم شعفاط لتنفيذ عمليات تفجير بيوت شهداء، وفي كل مرة كان يحاول فيها كان يجد التفافا شعبيا وجماهيريا واسعا حول بيوت الشهداء، مما يضطره الى التراجع والانسحاب.
ولكن هذا الاحتلال الغاشم المتسلح بنظرية الاستعلاء والعنجهية، وبأن العرب والفلسطينيين فقط يخضعون بالقوة والعصا، وبأنه محظور على حكومة الاحتلال التنازل والتراجع في وجه شبان الانتفاضة او شعبنا الفلسطيني، فهذا يمس بهيبة جيشها وحكومتها وسيادتها،ولذلك تراجعها بغرض وضع خطط جديدة تمكنها من تحقيق هدفها بتفجير بيوت الشهداء، ودخول المخيم بأقل الخسائر والمواجهات، ورأت بان الوقت المناسب لذلك هو عندما يذهب العمال الى اعمالهم والطلاب الى مدارسهم، هؤلاء الذين يشكلون رأس الحربة والعصب الرئيس لقيادة المواجهات مع جنود الاحتلال في حال اقتحامهم.
لكن رغم ذلك وجدنا بأن هاجس الخوف يسيطر على الاحتلال وجيشه، حيث ان عملية غزو واجتياح المخيم بهذه الأعداد الكبيرة من الجنود المدججين بالعدة والعتاد والسلاح، كان يراد منها هدف آخر هو بث الرعب والخوف في قلوب أبناء شعبنا، والقول بانه لا جدوى من المقاومة او المواجهة، ولكن رغم كل ذلك ومشاهد الاقتحام فإن الصورة تقول بشكل واضح بان هذا الجيش قد انهزم أمام أطفال مخيم لا يملكون سوى إرادتهم وحجرهم وصدورهم العارية للمواجهة والدفاع عن بيوت الشهداء.
جماهير شعبنا واطفالنا وشبابنا الشهداء عندهم خط احمر، فالشهيد هو رمز النضال والمقاومة، رمز العزة والكرامة وعنوان قضية وشعب، والمخيم أصل وجذر الحكاية، وهزيمة المخيم تعني الكثير لهم ولشعبنا الفلسطيني، فالمخيمات على مدار سفر النضال الوطني الفلسطيني شكلت الحاضنة لنضالنا الوطني، هي حضنت البندقية والكفاح المسلح، هي من كانت تتحمل العبء الأساسي في إبقاء شعلة الكفاح وجذوة النضال مشتعلة، من اليرموك في الشام الى عين حلوة في طرابلس فالوحدات في الأردن الى كل مخيمات شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
المخيم هو الشاهد على المأساة والجريمة، 68 عاماً مرت على نكبة شعبنا، وما زالت نكبته مستمرة وتجلياتها في اكثر من مكان، والمجتمع الدولي بدلاً من ان يضع حداً لهذه المأساة الإنسانية بإجبار حكومة الاحتلال على تطبيق قرارات الشرعية الدولية واحترام اتفاقياتها ومواثيقها ومعاهداتها، نجد هناك من يدعمه بشكل لا محدود ويوفر له الغطاء والمظلة في المؤسسات الدولية، لحمايته من أي قرارات او عقوبات قد تتخذ بحقه او تفرض عليه نتيجة عدوانه وجرائمه وممارساته القمعية والإذلالية والتنكيلية بحق شعبنا الفلسطيني، وليصل الأمر الى أبعد من ذلك، حيث وجدنا من يقف الى جانب الجلاد، ويعتبر بان له الحق في الدفاع عن نفسه، ويدين الضحية ويطالبها بإدانة واستنكار نضالاتها وتضحياتها، في "تعهير" غير مسبوق لكل قيم ما يسمى بالحرية والعدالة والديمقراطية وحق الشعب في النضال المشروع من اجل نيل حريتها واستقلالها.
الثاني من كانون اول/2015 سيحفر عميقاً في سفر النضال الوطني التحرري الفلسطيني، سيسجل بأن أطفال مخيم شعفاط بحجارتهم العارية هزموا جيش الغزاة الصهاينة المكون من اكثر من (1200) جندي بكامل عتادهم وعدتهم وجرافاتهم وبلدوزراتهم وكلابهم، هؤلاء الأطفال كانوا يرددون ما ردده الراحل الكبير سميح القاسم احد شعراء المقاومة الذين بشر بهم الشهيد الأديب المبدع المناضل غسان كنفاني، واجهوا هذا الجيش الغازي على وقع تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم..
ما حدث في مخيم شعفاط يثبت بأن "الهبة الشعبية" في شهرها الثالث، لم تظهر أي علامات تراجع، بل إنها تتجذر وتتصلب وتطور كلما زاد القمع الصهيوني، وإرادة النضال الوطني لم تهزم، وشبان الاتفاضة لن يعودوا الى "بيت الطاعة" تحت اوهام بان هناك مشاريع سياسية في الطريق، او الخوف والرعب من كل أشكال القمع المتنوعة التي تمارس بحقهم وحق شعبنا من قبل الاحتلال.
فهؤلاء الشبان قد بنوا مقطعاً ميدانياً وأضافوا سطور صفحاته من نضالاتهم وتضحياتهم، وهم بذلك يسقطون نظريات ومقولات قادة الحركة الصهيونية والمشروع والحكومة الصهيونية، بأن "القوة والعصا أفضل وسيلة"، وإزاحة من في المقدمة يبدد القطيع.
لقد كسروا مرحلة التراخي وبددوا الأوهام، وحققوا إنجازات سياسية ومعنوية، صحيح انها غير كافية لكي تحدث تغييرا استراتيجيا نحو انكفاء الاحتلال ومشروعه الاستيطاني او تفكيكه، لكن ما هو أصح بأن الفصائل امام لحظة تاريخية فاصلة إما أن تكف فيها عن التنظيرات و"الجعجعات" وتنخرط في الميدان الى جانب هؤلاء الشبان، وإما أن تواجه المزيد من النزف والتراجع في دورها وادائها وقدرتها على القيادة وكسب ثقة الشارع.
تقدموا
بناقلات جندكم
وراجمات حقدكم
وهددوا
وشردوا
ويتموا
وهدموا
لن تكسروا اعماقنا
لن تهزموا اشواقنا
نحن القضاء المبرم
تقدموا
تقدموا