نابلس-قدس الإخبارية: تدور معركة ضارية في قرية عصيرة الشمالية اشتركت فيها وحدة "الدوفدوفان" أكثر وحدات القوات الخاصة بجيش الاحتلال تدريبا، والهدف القضاء على مطلوبٍ لهم، الكابوس كان بانتظارهم، قام الشاب بتبادل الأدوار معهم، حيث فاجئ هو مجموعة من جنود النخبة بإطلاق نار مباشر ومن مسافة قريبة، لحظات فقط حتى سقط أكثر من ثلاثة جنود قتلى، مئات الجنود تمّ احضارهم إلى المكان لفرض الحصار مع تغطية جوية من الطائرات المروحية، في خلفية هذا المشهد الشبيه بمعركة بين جيشين، يسير شاب وسيم بثقة وهدوء غير متأثّرٍ برصاصة أصيب بها مبتعداً إلى نابلس.
"المقاومة بالأساس فعل لا عقلاني، العقل جبان، ماذا يخبرك عقلك حين تتورّط في مشكلة، أو عندما تكون في مكانٍ خطر؟ لا شيء إلا جملة واحدة تتكرّر بعنف: أهرب، انجُ بنفسك. لكن دائماً هنالك المجانين من يقفزون إلى الوجدان ليأخذوا على عاتقهم مواجهة التاريخ بدلاً من الهرب، يمسكون التاريخ الهائج من قرونه ليعيدوه إلى مساره الصحيح".
هؤلاء المجانين يتحوّلون في لحظاتٍ فاصلة إلى شهداء (ومثلكَ لا يُحسن الموت إلا إذا اختار لحظته الفاصلة)، نجوم متناثرة تصنع لحظةً مهيبة في سماءنا كلّما نظرنا إلى الأعلى. ولكلٍ منّا نجمته المفضّلة، الأمر يشبه "السوبرهيروز"، لكن في حالتنا نحن الفلسطينيين، هؤلاء الرجال الخارقون حدثَ فعلاً أن كانوا هُنا. وكما لكلّ منّا شخصيته المفضّلة، نجد لكل شخصٍ منا قائمة بنجومٍ يحفظها عن غيب، لونها وشكلها ووهجها، نكبر وسيرة هؤلاء العظام تكبر معنا، الشهيد يتحوّل لدينا إلى شيء نقي وجميل، أمر يمكننا الاستناد عليه عندما تظلم من حولنا الدينا، لنجدهم بصورهم التي رسمناها في داخلنا واقفين مبتسمين وكأنّهم يهدهدون على قلبونا بأن لا بأس.
لحظات الالتحام متشابهة بين الشهداء، غير كافية لتكون سبباً تفضيل أحدهم على الآخر، إنما هي التفاصيل البسيطة، أمور نحبها فنجدها قد تكثّفت فيهم لتصبح مداها الأعلى، كاسة شاي ساخنة تحملها يد لا يظهر منها سوى الأصابع بسبب طول الجاكيت، صاحب هذه الأصابع يختفي داخل الجاكيت ويضغط على كاسة الشاي لتساعده على برد الشتاء. الوسامة شيء مهم وهي إضافة نوعيّة لست بحاجتها إذا كنت شابّاً، أما صاحبنا صاحب كاسة الشاي، كان يمتلك منها الكثير، بشعرٍ بنيّ ولحية تتخللها بعض الخصل البرتقالية، عيون خضراء نادرة، تجدها تنظر في معظم الصور بطريقة واحدة، نظرة غير مفهومة لا تقول إلا أن ما في داخلي أكثر تداخلاً وغموضاً. المكان الذي التقطت فيه الصورة مفتوحة على جبالٍ ومناظر واسعة، فهذه الأرواح لا تستطيع أن تُخنق في مدنٍ مكتظّة.
[caption id="attachment_78958" align="alignleft" width="400"] الشهيدان محمود أبو هنود ومهند الطاهر في جلسة شاي برية[/caption]في مشهدٍ آخر نجد الشاي حاضرأً مرةً أخرى، هذه المرّة بدون أن نراه، لكنّنا نرى النار المشتعلة في الحطب تخبرنا أن الشاي سيوضع هُنا، وسيكون الرمّاد والإبريق المحروق من الأسفل شاهداً على أن هؤلاء الأشخاص يحبّون هذا الأمر كثيراً. يجلس أبو هنّود بعقاله وشمّاغه الأحمر كشيخ الشباب بجانب مهنّد الطاهر الذي يضع "طنطوراً" على رأسه (الذي أحبّه جداً بالمناسبة، واعتبره أفضل وسيلة لمقاومة الشتاء)، جلسة لطيفة، لولا وجود السلاح في حضن أبو هنّود لاعتقدت أن هذه سهرة عاديّة جداً يتحدث بها شباب لطيفون يحبّون شرب الشاي على الحطب مع أحاديث لا تنتهي، من التقط الصورة نسي أن أصبعه كان يغطّي جزءأ من الصورة فظهر فيها، لكن لا يهم، لم تكن فكرتهم عن الصور في حينها كما نعتقد نحن الآن.
لم أجد يوما المتعة في لعب الألعاب ذات الأفكارة الأمريكية، أن تكون قائداً في الجيش الأقوى تكنولوجيا وعسكرياً تقوم بالقضاء على متمرّدين في أفريقيا أو ميليشيات في بلادٍ أخرى، أين البطولة في شيءٍ كهذا؟ أن يقوم رجل ضخم قوي البنية بضرب رجل هزيل، أمر عادي ومتوقّع، ولا يدفع أحداً للانتباه. لذلك كان عماد عقل في بنيته الجسمية الهزيلة قادر على إذهالي دوماً حينما أتخيّله يقفز على جيب في داخله عددّ من الجنود فيقوم بقتلهم الواحد تلو الآخر.
نحن نبحثّ عنّا في الشهداء، فهم تجلّينا الأعظم. في زمانٍ آخر لنّ يكون أجلّ من هذا الزمان بالطبع، سنجد هؤلاء الأشخاص يقومون بما يحبّون، محمود أبو هنود يشرب الشاي مع مهند الطاهر في الخلاء، يسهرون لآخر الليل مع نكتٍ حول اعجاب الفتيات بجمال أبو الهنّود. وعماد عقل الذي استطاع أن يجمع بصورة غريبة بين الشاب المتفوق (كان الأوّل على مدرسته) والشاب الذي يبدو أن المُزاح معه شيء لا يُنصح بفعله، لا أتخيّله سوى شابّ غاضب يقوم بافتعال مشكلةٍ ما في حي من أحياء غزّة.