غزة - خاص قُدس الإخبارية: " تيدكس لأول مرة في غزة"، تبدو العبارة إعلانية بعض الشيء لكنها أبدًا ليست كذلك، إنما تتضمن تعريفًا بالحدث الأهم في غزة منذ أيام، وهو إقامة عرضٍ تحدث فيه أشخاص ناجحون عن تجاربهم وأفكارهم في محاولة منهم لإيصال صوت غزة إلى العالم بصورةٍ إبداعية، فماذا قال ملهمو غزة عندما أمسكوا ميكرفوناتهم مسمعين صوتهم للعالم؟!
ولعل البعيد عن المشهد يتساءل، "لماذا تيدكس شجاعية؟!" ويكون الفريق المنظم سعيدًا بتوضيح المفاهيم التي تتعلق بالحدث، فـ TED هو حدث يقام في أمريكا من ثلاثين عامًا ويجمع عددًا من المبدعين والمفكرين حول العالم ليمنحهم الفرصة للتحدث بمدة تتراوح ما بين "أربع إلى ثلاثة عشر دقيقة" ويعرضون أفكارهم بطريقة مثيرة لاهتمام الجمهور على تكون الفكرة جديدة وملهمة ومثيرة ومؤثرة.
لكن الفرق بين TED و TEDx، حسب ما أوضحته منظمة الفريق بغزة هبة ماضي لـ قدس الإخبارية، أن "تيد" الأمريكية دأبت منذ العام 2006م، على إعطاء تراخيص لنشر الحدث في كل العالم وإعطاء تراخيص لأشخاص بدول مختلفة لإقامة الحدث في بلدانهم، حيث استضافت 166 دولة الحدث من ضمنها دول عربية، فكان تيدكس القاهرة والرياض وحتى تيدكس رام الله، ما أعطى الإلهام لأن يكون هناك "تيدكس" الشجاعيةـ وهو ما يعني أن TEDx حدث منظم محليًا بترخيص من TED.
شهرة الحدث وانتشاره ترجع حسب ماضي، إلى أن كلمات المتحدثين في المؤتمر يتم تصويرها ونشرها بقناة "تيد توكس" وأخرى يتم نشرها على موقع تيد، حيث نسب المشاهدة كبيرة تتجاوز الملايين حول العالم، وهو ما يستدعي كذلك ترجمتها إلى "ثلاثين لغة حول العالم".
فمثلًا، وصلت أعداد المشاهدات الخاصة بـ"تيد" إلى أكثر من مليار مشاهدة في العام 2014 ما دفع ماضي للتفكير في إقامته في غزة ونشر ما فيها عبر هذه المنصة العالمية، فغزة ليست حروبًا فقط، إنها تحتوي قصصًا وحكايات بها إلهام متجدد.
ولذا بدأت مرحلة العمل الجدّي وتقدمت ماضي بتعبئة طلب الحصول على ترخيص لإقامة الحدث في قطاع غزة وبعد جهد أسبوعين من العمل أجرت مع فريقها مقابلة عبر سكايب وطُلب منها تقديم ثمانية أفكار تثبت أن لديهم أفكار تستحق النشر حتى يتم إقامة هذا الحدث في غزة، حيث التقت شخصيات مؤثرة لجمع الأفكار.
وتقول ماضي، "بذلنا جهدنا وأرسلنا جميع الأفكار ثم مرحلة مناقشة الأفكار المتنوعة مع استفادتنا من تجارب تيدكس بالوطن العربي حتى حصولنا على الموافقة لإقامة تيدكس الشجاعية".
تيدكس الشجاعية وليس تيدكس غزة، كانت التسمية مشروطة كما أوضحت ماضي، فتقول، "كان الطموح أن يكون الاسم "تيدكس غزة أو قطاع غزة" ولكن سياسة تيد تمنع منح الترخيص لأول مرة لمنطقة كبيرة كقطاع غزة، وبعد مفاوضات تم التوصل الى أن يكون الحدث "تيدكس الشجاعية" حيث تم اختياره لما تحمله الشجاعية من مكانة ورمزية.
أما عن اختيار المتحدثين، فهو ما أخذ وقتًا كبيرًا بدءًا من تعبئة طلب الحصول على ترخيص، وحتى تنظيم العديد من ورش العمل لتعريف الجمهور في قطاع غزة بتيد وتيدكس وأهمية لقطاع غزة، والبحث عن مبدعين وملهمين تتيح لهم تيدكس فرصة لعرض أفكارهم، وورش لتدريبهم وتجهيزهم للوقوف والحديث عن تجاربهم وأفكارهم أمام الجمهور.
وتنبع أهمية "تيدكس الشجاعية" لقطاع غزة من التأكيد على حاجة إلى منصات عالمية لتبرز هذه الأفكار الملهمة والمبدعة وتغيير الصورة النمطية الموجودة في الإعلام عن غزة وحروبها ومأساتها وأن بها من الطاقات والأفكار ما هو ملهم لكل العالم.
الفريق والمتطوعون والحضور
ويتكون فريق الشباب المنظمين للحدث، الذي سينتشر عبر قنوات موقع “تيد” العالمي، من 8 أفراد، أصغرهم تعدى العشرين بقليل وأكبرهم لم يتعدى الـ 25 من العمر، هذا إلى جانب اختيار فريق مكوّن من 30 متطوع من أصل 350 تقدّموا من أجل التطوع لتنظيم الفقرات ومتابعة الحضور والأقسام المختلفة يوم الحدث.
المتطوعة في تنظيم "تيدكس الشجاعية" فرح اسليم، تقول لـ قدس الإخبارية، إن مشاركتها في هذا الحدث كانت أجمل ما قامت به في حياتها، فهذا الحدث ليس عاديًا أبدًا، فما بالك إن كان من غزة التي نحب؟، مضيفة "أنا فخورة لانتمائي لهذا الفريق التيدكسوي العظيم".
وكانت اسليم قد التحقت بالفريق كمتطوعة بعد رفض أولي، بحسب شروط وضعتها إدارة الفريق، فهي التي كانت تتابع بشغف هذا الحدث العالمي على برامج اليوتيوب وتشاهد باستمرار أفكارًا لملهمين ومبدعين من خلال هذه المنصة حول العالم
"هبة وفرح" كانتا تبثان في روح بعضهما روح التشجيع، والتأكيد على مبدأ يتفقون عليه " في أن غزة تستحق الحياة، وأهلها فيهم الحياة والروح الجميلة المفعمة بالشجاعة والثبات والنجاحات والإصرار"
"العائلة التيدكسوية" هذه سميت عائلتها لشغفها بهذا البرنامج الملهم، فأخوتها قبلوا في المشاركة أما هي فقد التحقت في اللحظات ما قبل الأخيرة بدلًا من أختها، وكان هذا من أجمل الأخبار حينها لأنه يطابق أحد أهداف حياتي، مضيفة" اشهد بأن الوقت الذي امضيته معهم من خلال الاجتماعات والترتيبات والمواعيد المحددة وأيام البروفات كان حتمًا من أجمل أيام عمري، قدمت وأعطيت من قلبي بكل شغف وحب للعمل، وللفكرة وللوطن"
أما عن رأي الحضور، فان أصدق القول الدموع، انتهى الحفل حينها بتصفيقات حارة ودموع صادقة ذرفها الحاضرون حبًا وتأثرًا، فهناك ثمة إجماع بأن الحدث فاق الخيال بتنظيمه وأسلوبه ومتحدثيه، كل منهم كان يمتلك إلهامًا خاصًا.
سلسبيل زين الدين، كانت إحدى الحاضرات التي عبّرت عن كل ما حدث على منصة تيدكس بعبارة، قائلة " إنه الشغف "، فهي التي تتابع منذ صغرها هذا الحدث العالمي عبر قنوات اليوتيوب ولم تصدق أن تراه واقعًا أمامها، هذا جزء من خيال.
عدد الحاضرين لا يتجاوز الـ 100 شخص، وفقًا لبنود تيد بالترخيص، والحضور بناءً على طلب يتقدم به الراغبون، فيما يتم القبول وفقًا لمعايير خاصة في تيد، أما عن اختيار زين الدين فكان حلمًا بالنسبة لها، قالت سبيل، "لقد شعرت أنني أهديت تذكرة سفر إلى العالم".
الحاضرون أثنوا كذلك على الدقة العالية في التنظيم، حيث الاهتمام بأقل التفاصيل، فكانت هناك اضافات مميزة وهي المعرض الذي تم اقامته بعد انتهاء الحدث كان معرض للكتب والصور والموسيقى والعلوم كان مميز جدًا، إضافة إلى خشبة المسرح التي عبرت عن الشجاعية بشكل ابداعي ملفت، حتى حروف تيدكس المكسرة كانت متعمدة لأنه ينقل رسالة الشجاعية، التفاصيل إبداعية والجهد خرافي ويستحق أن يكون على مستوى عالمي، قالت سبيل.
متحدثون ملهمون
التصفيق الحار الذي شهده الحدث والابتسامات العريضة والدموع المؤثرة، والحماس الذي دخل قلوب الكبار قبل الصغار، يؤكد أن المتحدثين كانوا قادرين على الإبهار إضافة إلى نجاحهم في إلهام الحضور، فدموع صحفي خاض حروبًا، وحتى تجربة أسير محرر مع بزوع شمس الحرية، وابتسامة فنانة هزمت السرطان.
كانت الأفكار متنوعة منها علمية ومنها فكرية ومنها انسانية، وهذا التمازج كان رائعًا، ففي لحظة تبكي من ذكريات الحرب، وفي لحظة تبتسم للإرادة التي حطمت السرطان، في حين أنك تعيد حساباتك لتجعل أفكارك خاصة بك، وتعيش فوضى الأفكار. تتعلم من البكتيريا وعن مشكلة المياه وكيف تشطرنج حياتك وتجعل من حولك جزء من أحلامك.
ابتسامة المتحدثة آية عبد الرحمن حمدان كانت قادرة على هزم كل الصعاب وتخطي السرطان والوقوف كفتاة رائعة ما زالت ترسم بريشتها فنًا صامدًا يبث روحًا وحياة، وتحدثت عن تجربتها مع مرض السرطان.
وقالت آية،"استلمت ورقة، بتقول إنه عندي أورام سرطانية درجة رابعة، لكن ما فاجأ الدكتور هو إصراري وأهلي على عمل العمليّة وأنّه وإن فشلت العمليّة أودّ أن يتمّ التبرع بأعضائي لمن يحتاجها”.
وتابعت، "بالمشفى كانوا يحسبوني بشتغل بالمشفى مش مريضة، احنا كنا مجرد أرقام، بس احنا مش أرقام! كنت آية التي تنجح، لا آية المصابة بالسرطان، ففي 15 فبراير انتهت حربها مع السرطان، وهي توصل رسالتها على المنصة العالمية بأن "كل إنسان له سرطانه الخاصّ.” وعليه أن يهزم خوفه.
"شكرًا لكم تيديكس كان مجرد حلم، وفخورة أنني اليوم من متحدثي تيديكس أتحدث عن تجربتي"، قالت آية في حديثها لـ قدس الإخبارية، فيما يشهد الكثيرون كيف أصبحت هي مثال للقوة ومصدر للإلهام.
مهند الخيري وهو متحدث في تيدكس أيضًا، والذي يُعتبر " حامي الفكرة وحارسها" فهو الذي كان حديثه عن أهمية الأفكار وديمومتها، قهو الذي قال على منصة تيدكس، "قيمة المجتمعات بما تمتلكه من أفكار، مشددًا أن الأشياء المهمّة بالنسبة لنا، “يمكن أن يأتي فيضان أو زلزال ويدمّرها كلّها، لكن ستبقى الأفكار دومًا موجودة"
الخيري يعتبر مشاركته إضافة نوعية لحياته، ومجال أكبر للاستفادة، ومراهنة على هذا الشباب الرائع، وعلى قيمة غزة وقدرتها على صنع الحياة والتميز، كما قوة الحدث وتفرده عندما يكون فيها"
إلهام وطني
يُلاحظ من تعليقات الحاضرين تأثرهم الشديد بمتحدثٍ رائد، كان أقل ما يوصف به هو "الروعة"، حتى أن المتحدثين ذاتهم كانوا يشعرون أنه يمنحهم الثقة، هو ذاته الذي احتضن جميع المتحدثين ودعمهم انطلاقًا من ايمانه بقدرة الشباب الفلسطيني وابداعه.
"عدد كبير منّا لا يتذكّر آخر مرّة تأمّل فيها شروق الشمس، أول شيء فعلته بعدما تحررت هي مشاهدة شروق الشمس، خوفاً أن يكون هذا مجرّد حلم، ثم ذهبت للبحر ووددت احتضانه" هو صاحب هذه الكلمات التي خرجت من قلبه لتعبر إلى قلوب الآخرين دون جسور، روحٌ كروحه لا يمكن إلا أن تلامس الجميع، كيف لا وفيه يختزل حب الوطن.
المتحدث الملهم، الأسير المحرر أحمد الفليت، يقول لـ" قدس الإخبارية" إن رغبته في المشاركة في تيدكس كانت نابعة من رغبته بتوصيل رسالة الأسرى؛ أنا واحد من بين مئات آلاف دخلوا السجون وأحببت ان أوصل رسالتهم عبر منبر هام جدًا وهو تيد، حيث مثلت لي تجربة جديدة ونوعية بكل معنى الكلمة، سعيد أنني مثلت غزة العظيمة بشكل عام، والاسرى بشكل خاص"
كان أكثر ما يلفت الانتباه في حديثه، هو قوله إن "أكثر يوم بكيت فيه فرحاً بعد الافراج عني كان لحظة نزولي عن مسرح تيدكس شجاعية بسبب ردة فعل الحضور وتقريبا سلمت على كل من حضر في المكان، وشخصيًا كنت أحمل عبء نجاح الفعالية لأن كلمتي كانت الأخيرة"
"كنتُ حريصًا جدا على نجاح الجميع لأننا نحمل رسالة غزة لكل العالم، حتى أنني كنت أحتضن المشاركين، قبل صعودهم وفور نزولهم من المسرح، فغزة نجحت في تيدكس شجاعية".
وأضاف، "وصلني رسائل من كل العالم تعبر عن انبهارها بالحدث وأن غزة تخرج بهذه الصورة، كان هناك متابعة خارج فلسطين عبر لايف ستريم في إنجلترا كان هناك متابعة جماعية بترتيب من طلاب فلسطينيين وطلبوا مني طريقة تحضير الحلويات من البصل، والكعك بدون عجوة، وهي أمور استعرضتها خلال حديثي عن تجربة الأسر".
الفليت يؤكد أن الاستمرارية هي الأهم، وغزة طاقة لا تنضب، مقترحًا على المنظمين ان يستمر عمل الفريق الحالي حتى السنة القادمة، وذلك بزيارة الجامعات والكليات والمؤسسات والمدارس وغيرها، مع استعداده للمساهمة في ذلك لأن غزة وشبابها يستحقون.
"لا يكفي أن يكون تيدكس ناجحًا، بل سيكون ملهمًا لكثير من الجهات في العالم، لأن غزة تعيش ظروف صعبة وقاسية ومع ذلك هي كطائر العنقاء تخرج دائما من بين الركام وتتحدى كل الظروف".
وعن مشاهدته لردة فعل الحاضرين الذي يعتبرونه الأكثر إلهامًا قال الفليت، "أعتقد أن بكاء أغلب من حضر كان دليلا كافيا على أن الرسالة وصلت، موجهًا شكره لتيدكس وشبابه ومنظميه ولكل من منحه ثقته وإلى غزة كلمة خاصة قالها، "غزة؛ معشوقتي الأبدية، أنا أحب غزة بكل من وما فيها، وقلت في كلمتي غزة هي ملهمة لكل أحرار العالم، غزة غير قابلة للكسر، غزة ملهمة العالم وصانعة التاريخ".