لأنّ من صوّر هذه الصورة قد ذهب إلى بلاد الغربة وخطفه الموت على غفلةٍ منّا، فكانت غربة بلا عودة. ولأنّ القصة التي خلف هذه الصورة يَجب أن تُروى، فهنالك تاريخ أجلّ من أن يندثر بلا توثيق، وأشخاص علينا أن نشكرهم، حتّى لو كان الأمر متأخّراً.
تم التقاط هذه الصورة بتاريخ 13/7/1994 ، في منزل خالي ابراهيم رحمه الله. قبل يومين من هذه الصورة وفي مكان آخر كانت تدور معركة ً ضارية في حارة الياسمينة في نابلس بينالشهيدين بشار العامودي وعلي العاصي من جهة، وقوّات الاحتلال من جهةٍ أخرى (المنزل الذي تحصّن فيه الأبطال كان منزل عائلة الشهيد أحمد جادالله الذي استشهد بعدما قامت قوّة خاصة بتصفيته في الانتفاضة الثانية، وأيضاً أمّ الشهيد قد استشهدت في الانتفاضة الثانية بعدما تعرضت لاطلاق نار وهي تقوم بتوصيل الاستشهادي أيمن الحناوي).
كان يحيى عياش متواجداً في نابلس ولكن لم يكن معهم في نفس المنزل، وبعد أن أُعلن عن استشهاد البطلين، قامَ يحيى عيّاش بمغادرة نابلس متوجّهاً إلى قريته رافات. ومن أجل الذهاب إلى القرية كان يتجنّب كل الطرق المعبّدة، فسار بين الجبال ليومين متواصلين، يصحبه ضربة قاسية جرّاء استشهاد صديقين من أعزّ أصدقائه، بشّار الشاب الجميل وعلي رفيق دربه، من الصعب جداً تقبل هذه المأساة، لأن الظرف الذي كان يعيشه يعني أن استبدال هؤلاء الشباب يحتاج إلى معجزة. لم يكن بإمكانك أن تحصل في زمنٍ صعب على رجالٍ كانوا يعدّون أنفسهم لنهاياتٍ مشرّفة بسهولة. وعلى الصعيد العسكري، فإن اغتيال رجلين من شباب القسام كان يعني فعلياً القضاء على 20% من تعداد الشباب المطاردين.
في أثناء مسيره بدون طعام أو ماء، تمزّق حذاءه القديم من شدة وعورة الطريق، وكان قد وجد نفسه قريباً من منزل صديق له يعرفه في قريةٍ مجاورة، فطرق عليه الباب في جزء متأخّر من الليل، ففتح له صديقه الباب بدهشة، وقال له انتظر قليلاً حتّى أخبر زوجتي. وعندما دخل ليتحدّث مع زوجته سمع مشادّة كلامية بينهما بما معناها أنها ترفض وتخاف دخول يحيى عيّاش إلى المنزل، وعندما عاد صديقه ليخبره بذلك، لم يجد يحيى. فقد أخذ نفسه ورحل بصمت.
وصل يحيى إلى القرية والتعب يأكله. تسلّل إلى منزل خالي ابراهيم ووجده نائماً وعنده في نفس الغرفة اثنين من اصدقاء العمل. قام بسحب خالي من قدمه وإيقاظه بهدوء حتّى لا يوقظ من هم معه. أفاق واحتضن يحيى وأخذه إلى منزل والده، حيث كانت زوجة والده رحمها الله يُغمى عليها من مشهادة صواريخ صدام وهي متّجهة نحو تل أبيب من فوق قريتنا، ومن رؤية يحيى عياش بسلاحه على باب منزلها.بعدما قام عمّ الشهيد(خالي ابراهيم) بتأمين يحيى والإطمئنان بأنه قد نام، ذهب ليخبر عائلة يحيى بقدومه، وعندما أفاق يحيى وجد عائلته بجانبه، وكان خالي قد قام بتجهيز الكاميرا وأجبر يحيى على المواقفة لأخذ الصور بعدما اشترط عدم توزيع الصور أو نشرها (قمنا بدفن الصور لحمايتها من جنود الاحتلال عندما قدموا لهدم المنزل و أخرجناها بعد استشهاده،. كلّ الصور التي كان الشهيد فيها ملتحياً كانت في نفس اليوم، ومنها صورتي مع والدي وهو يحملني).
سنوات كثيرة مرّت منذ آخر مرة اجتمعت بخالي ابراهيم، لم يحدّثني مُطلقاً بهذه القصة بهدف أن يقول لقد فعلت. كان يقول لي القليل القليل، وكأنّه فعل أمراً من الطبيعي أن يقوم به. قمت بتجميع القصة الكاملة من عدة أطراف. أتمنى أن يعود الزمان لآخر لقاء جمعنا، لأقول له: هل كنت تدري وأنت تحمل الكاميرا أنك كُنت تحفر في تاريخنا تفاصيل سينظر لها جميع الشعب بذهول؟ لكلّ الذين قدّموا بدون مقابل، بدون أن يدعوا السؤال يغلبهم ويثني من عزيمتهم، رحلوا وهم لا يعبؤون بما سيحدث من بعدهم، فقد فعلوا ما عليهم، وأكثر. إليهم جميعاً: يقولون مات.. ومثلك لا يحسن الموت إلا.. إذا اختار لحظته الفاصلة.. وفوق المدى.. كانت الشمس ترقب أقمار عينيك حتّى تعود.