ما قبل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السبعين، كان هناك حديث عن "قنبلة" سيفجرها أمام الحشد الدولي المتميز في الجمعية العامة، وكانت التكهنات والتحليلات التي سرت حول تلك "القنبلة" منصبة على ان خطاب الرئيس سيضع حداً لمرحلة طويلة من المفاوضات العبثية وغير المجدية، وسيؤكد على استراتيجية فلسطينية جديدة او نوعية ترتقي الى مستوى الكفاح والأوضاع والظروف الإستراتيجية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، فلذلك كانت تلك التكهنات والتحليلات تقول بأن الرئيس قد يعلن الغاء اتفاقيات اوسلو، أو ربما الإنسحاب منها، أوتجميدها، وخاصة ما يتصل ويتعلق بالتنسيق الأمني "المقدس" والذي جرت مطالبات فصائلية وحزبية ومجتمعية بوقفه استناداً لقرارات المجلس المركزي في دورته (4 +5) من شباط الماضي، او تجميده، وفي الحد الأدنى تقنينه وتقليصه من باب أضعف الإيمان .
وفي الخطابات للزعماء والقادة العرب والعجم والدوليين التي سبقت خطاب الرئيس عباس، ارتسمت خيبة كبيرة رغم كل الحديث الطاغي و"الهوبرات" و"الهيزعات" عن النصر الذي سيتحقق برفع العلم الفلسطيني الى جانب اعلام الدول الأخرى أمام مبنى الأمم المتحدة، على الرغم أن ذلك نصراً معنوياً كبيراً، فالقضية الفلسطينية لم تسقط فقط من كلمة زعيم اكبر دولة في العالم "أوباما"، بل غابت في كلمات العديد منهم،ووردت بشكل مجزوء ومقتضب او بصورة مختزلة او هامشية في كلمات البعض الآخر، وهذا يعكس مدى التراجع والتآكل في مكانة القضية الفلسطينية على الساحة الدولية.
وعلى كل حال انا لست هنا بصدد الحديث عن الأسباب التي ادت الى مثل هذا التراجع المريع للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية فلسطينياً وعربياً، ولإن كنت سآتي على ذلك في سياق المقالة بدون تفصيل.
خطب الرئيس خطابه وكان الجميع من أبناء شعبنا يريد معرفة والإستماع الى "القنبلة" التي سيفجرها الرئيس في خطابه، حيث أسهب في شرح الجرائم والإجراءات والممارسات والخروقات التي مارستها وارتكبتها "اسرائيل" بحق شعبنا من النكبة ليومنا هذا من تدمير وحرق للأطفال واستيطان واعتقالات وإنتهاك بحق المقدسات وبالذات للمسجد الأقصى وغيرها،وقال بأن هذا الوضع القائم لم يعد مقبولاً، وبان اسرائيل لا تلتزم بالاتفاقيات ودمرت الأسس القانونية والسياسية التي قامت عليها تلك الاتفاقيات، ولذلك ما دامت "اسرائيل" غير ملتزمة بهذه الاتفاقيات، فإن الشعب الفلسطيني وقيادته لن تلتزم بهذه الاتفاقيات، وكذلك طالب بالحماية الدولية لشعبنا الفلسطيني، وبأنه ما دامت "اسرائيل" ترتكب الجرائم بحق شعبنا،فإننا مستمرون بالتوجه الى المحاكم الدولية والى محكمة الجنايات الدولية، ولكنه بالمقابل لم يسقط خيار السلام الذي قال بأن ضروري لشعبنا و"جيراننا"، ولم يغلق الباب امام العودة مجدداً الى المفاوضات وحل الدولتين، وأعلن قبوله للمشروع الفرنسي، ذلك المشروع الذي يدعو الى العودة للمفاوضات بين السلطة الفلسطينية "واسرائيل" مجدداً حتى نهاية عام 2017، وفق الأسس والمرجعيات السابقة التي فشلت فشلاً ذريعاً في حمل "اسرائيل" على تقديم أية تنازلات جدية من اجل السلام.
انتهى خطاب الرئيس ومهما كانت قوة بلاغته وإنشاءه وجزالة ألفاظه ومفرداته،ومهما كان تشدد وتصعيد في نبرة الخطاب اللفظي، فإنها ستبقى في إطار اللغة، إذا لم يجري ترجمة ما ورد فيه الى سلوك وأفعال وممارسات وتطبيقات عملية على وفي أرض الواقع،وبدون ذلك فإن الخطاب سيكون "اجترار" وتكرار لما هو سابق، وسيكون خطاباً استهلاكياً، لا تأسيس فيه لسياسة جديدة، ولا يشكل جسراً لمرحلة استراتيجية جديدة.
والخطاب كذلك لم يعلن بشكل عملي وصريح عن التحلل من إتفاقيات اوسلو، او حل السلطة، أو ما هو مترتب على تلك الإتفاقيات من إلتزامات امنية وسياسية، رغم قول الرئيس بأن "اسرائيل دمرت الأسس التي قامت عليها، وهو كذلك لم يطالب بإعتبار دولة فلسطين دولة تحت الاحتلال، رغم قولة ومطالبته بالحماية الدولية لشعبنا، واعلن رفضه للحلول المجزوءة والدويلات المؤقتة، وهو لم يوضح او يشرح الأليات لتحقيق ما طرحه، فهو ربما أراد ان يوجه رسالة تهديد للمجتمع الدولي بأن عليه ان يتحرك وإلا، تلك إلا التي واضح انها لم تعد تخيف أحداً،لكونها بدون "أنياب" ومجردة من عناصر القوة .
قبل الحديث عن ما هو المطلوب بناء على ما ورد في خطاب الرئيس، لا بد من القول بأن الحالة الفلسطينية وما وصلت وقادت الشعب والقضية والحقوق اليه من اوضاع ومآلات مزرية وصعبة، هي نتاج حالة الضعف والهوان الفلسطينية والتعلق ومطاردة خيوط الأوهام والرهانات الخاطئة، وما تعيشه قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية من ضعف، وما يفعل به الإنقسام القائم والمستمر والمتكرس،بفعل تغليب المصالح والأجندات الفئوية والحزبية والصراع على سلطة منزوعة الدسم من تفكك وتحلل ومخاطر جدية على المشروع والقضية والشعب.
وكذلك الحالة العربية التي تعيش إنهيارات وتراجعات غير مسبوقة،حيث حروب التدمير الذاتي وحروب الجميع ضد الجميع، وبفعل ذلك لم تسقط القضية الفلسطينية "سهوا" من خطاب اوباما، إلا بعد ان سقطت عمداً من جدول أولويات معظم إن لم نقل جميع الأنظمة العربية.
المطلوب والملح الآن، ليس خوض جولات وصراعات من الجدل والنقاش البيزينطي حول الخطاب، وحول جنس الملائكة ذكر او انثى، في ظل احتلال "متغول" و"متوحش" يبتلع الأرض ويلغي القضية ويقصي شعب، بل يجب ان ترسم استراتيجية فلسطينية تقوم على أساس الاشتباك والصراع مع المحتل بكل أشكال المقاومة المشروعة والممكنة، ومطاردة وملاحقة دولة الإحتلال وقادتها وتعميق عزلتها ومقاطعتها في كل المحافل والمؤسسات الدولية، ووضع المنطقة برمتها من جديد أمام لحظة الحقيقة والاستحقاق غير ممكن بدون جهد فلسطيني اولاً.
وهذا يتطلب العمل على استعادة الوحدة الوطنية وانهاء الإنقسام بتفعيل جدي وحقيقي للإطار القيادي المؤقت وان لا تبقى الإستراتيجية الفلسطينية قائمة على سيل من القنابل الصوتية التي لا تخيف أحداً، لفرط تكرار التهديد بتفجيرها من جهة، ولانعدام جديتها وجدواها من جهة ثانية، وإلا فإننا مقبلين على مراحل تصفية حقيقة للقضية والمشروع الوطني الفلسطيني في ظل ما يحدث من تطورات وتغيرات دولية وإقليمية وعربية، حيث مطلوب منا ان نلتقط ونجير ما يحدث ايجاباً لمصلحة شعبنا وقضيتنا.