غزة - خاص قُدس الإخبارية: عامان ويكتمل قمرها متممة قرنًا من عمرها، لكن سنوات هذا القرن الزمني لم تكن قادرةً على العبث في ذاكرة "الحاجة رحمة مراد" التي تسكن دار الوفاء للمسنين بمدينة الزهراء جنوب مدينة غزة، برفقة صديقاتها العجائز الذين بدوا كقوارير ورد تأصلت حتى أمست شجرًا أصيًلا يزهر طيبًا.
"أنا من سوريا وعاصمتها دمشق" كلمات ثابتة تقولها الحاجة رحمة كلما سألها أحدهم "كيف حالك؟" وكأنها تجيب عن اسمها ثلاثيًا، فيما تدمع عيناها مصحوبة ببريقٍ لافت وكأنها ترى ومضة من هناك.
تقول رحمة وهي تعد أصابعها كطفلٍ يخشى نسيان رقم العد، "أنجبتُ أربعة أبناء" كانوا جميلين كفصول السنة
 أسميتهم "جميل، نعيم، عبد، سفيان"، لكنها لم تدرك بعد أن الفصول جميعها غادرت العام بعد أن انتهت بخريفٍ أزاح الأوراق عن الشجرة الأم.
جاءت رحمة إلى غزة على إثر وجعٍ في بطنها للعلاج بوصفة من غزة قبل سنوات طويلة، حرمت خلالها عائلتها بأكملها بالبعد والموت والفرقة، فأولادها الذين أنجبهم بطنها المريض آنذاك، يستقرون في الشارقة.
من فرط طيبتها تقول، "بحبهم كتير بموت عليهم كتير بحبهم"، بدت كلماتهم صادقة حد الوجع وخارجة من قلبٍ لا يعرف سوى الحب بندرته وصورته الأولى، دون تفكير بالهجر أو التقصير من طرفهم، مضيفة " أنا بعيش على صوتهم وهما بيكلموني، بيكلموني أوقات"
شهدت رحمة الحرب الأخيرة على قطاع غزة الصيف الماضي، فتقول "لم نكن في هذا المكان، لقد قصف الاحتلال الإسرائيلي دارنا التي كنا نسكنها بالقرب من الحدود الشرقية لمدينة غزة، ثم انتقلنا إلى هذه الدار بعد تدمير بيتنا الأول".
تعاني الحاجة التسعينية عدة أمراض لكنها لم تودي بها على الفراش كونها تقاومها في كل مرة، آخرها إصابتها في رجلها وأصابع قدمها المثنية فوق بعضها والمجروحة وعليها آثار الدم الناشف، والتي تنزف كل فترة، بفعل الحركة الكثيرة لرفضها البقاء في مكانها، فهي من قال عنها مشرفوها هناك "روحها ترفض الوقوف".
الجميل في الأمر، هو روح الانتماء الذي تحمله الحاجة رحمة رغم وجعها وفرقتها عن أبنائها وأهلها، فهي تقيم علاقة مع كل شيء حتى الشجر المتواجد حولها، أما عن البشر فــ "نادرة" هي التي تراها الأقرب من بين رفيقاتها في الدار، كون بقية النساء العجائز يحسدونها على محبة الناس لها فور لقائها.
أما الملفت فيها، فهو ما يلحظه المتحدث معها من تكرار ذكر بلدها الأصلي، فهي لا تكف تذكر كل خمس دقائق أنها "من سوريا التي عاصمتها دمشق"، ودمعة عيناها التي لا تأتي إلا مصاحبة لهذه الكلمات.
ما يثير الدهشة ليست فقط وطنيتها الكبيرة وانتماءها لمسقط رأسها، ولا حب الوطن الذي لم تستطع 98 عامًا أن تزحزحه من قلبها، إنما ما يُلاحظ من متابعتها للأخبار الخاصة بسوريا على الدوام.
تتابع رحمة بأسىً واضح، "قصفوهم بسوريا، بيموتوا ناس كتير باليرموك وبضيعات كتيرة كمان"، مضيفةً بلسانها الثقيل الذي تجهض خلاله الحروف مدللة بعد مخاض، "بيقصفوهم بالقذائف وبالصواريخ هناك وأنا كتير زعلانة ع سوريا"، لاهثة بالدعاء أن يحمي الله سوريا من كل شر ومعتدي وأن يعيد لها الخير كما كان.

                        

