لأنسى كل شيء، اسمي، عائلتي، جنسيتي، ديني، عمري، من أنا، ولأذكر يوم واحد من حيفا، ساعة واحدة في حيفا، لحظة لا تتعدى نصف غمضة عين في حيفا.
فصغيرة لم تتجاوز أشهرها الأولى كنت في القماط، و يا ليتي لم أكن، يا ليتني كنت أكبر قليلا أو يا ليتني لم أحظى بهذا الشرف العظيم ولم أولد في حيفا، فكل هواء غير هواءها يجرحني بلا رحمة منذ خروجي منها في 22/نيسان/ 1948.
وقفت أمي تقلب الطعام على عجل قبل قدوم أبي، بعد أن غافلتني وتركتني نائمة في الغرفة المجاورة، حين سمعت الانفجار الأول الذي أيقظني مرعوبة أبكي بكل ما أتيت من قوة.
اقتربت، حملتني، هدأت من روعي وربتت على ظهري إلى أن تمالكت نفسي، ثم وضعتي بسريري المعلق على قاعدتين تحملانه كأرجوحة، سريري الذي لطالما بكيت بغية الحصول على قيلولة فيه قرب النافذة المطلة على الميناء، النافذة التي كانت تأتي طيور النورس لتسترق بخجل النظر إلي قبل أن تحلق عائدة لتصطاد غدائها من البحر.
عادت أمي إلى المطبخ، وقالت لي وهي تدير ظهرها، "والدك سيعود بعد قليل وإن لم يجد الغداء فسيضرب عن الطعام أيام كعادته، فلتكوني عاقلة قليلا ولو لنصف ساعة"، وسمعتها تقول إن ذاك الصوت ربما نتج عن سقوط إحدى حاويات البضائع الضخمة، ثم سمعتها تمتم وتدعو الله أن لا تكون هذه الانفجارات ناتجة عن إلقاء العصابات الصهيونية براميل البارود.
هنيهة أقدرها بأقل من خمسة دقائق، غفلتني بهم عيناي مجددًا وأغمضتا، قبل أن أستيقظ مجددا وقد شعرت بالسرير يهتز بقوة أخافتني، وسمعت انفجارات متتالية قوية يتخللها زخات من الرصاص، ليقطع صوت أمي كل هذه الأصوات ويصلني، سمعتها تفتح الباب ثم تغلقه ثم تفتحه مجددا، سمعتها تركض في المنزل وتقف عند كل نافذة عسى أن ترى أو تسمع ما يجري، ولكن لا يوجد سوى رجال يركضون ونساء يصرخن ويبكين وينادين على أزواجهن وأبنائهن.
الأصوات تشتد، ودمعات أمي الواقفة أمامي تتساقط على وجهي، أذكر مذاق إحدى الدمعات التي تسللت إلى فمي، كم كانت مؤلمة وقاسية، لم أحببها أبدا إلا أنها الوحيدة التي ما زلت أذكرها من حيفا!!
كنت خائفة جدا وكانت يداي ترتجفان ولكني لم أبكِ، تقترب أمي مني وتمد ذراعيها لتحملني، وما أن أمد ذراعي حتى تتراجع. مرة، مرتين، ثلاثة وهي ما زالت تترد أن تحملني وتتمنى لو تستطع الخروج راكضة لتبحث عن أبي الذي كان يعمل حمالا في النهار، وفي الليل كان يحمل بارودته المخبأة خلف "نملية" المطبخ ويذهب تاركا أمي نائمة، ولكني أنا كنت أستيقظ كل ليلة على قبلاته المتساقطة على وجهي ورأسي ويدي.
الانفجارات وزخات الرصاص ما زالت تدوي منذ نصف ساعة، والصوت أصبح قريبا بل على باب منزلنا الكائن في حي المحطة أقرب أحياء على شاطئ حيفا، ولم أعد قادرة على كتم بكائي، فتحت أمي الباب وإذا بها تعانق أبي وتطمأن عليه، اقترب مني وحملني ونهال علي بقبلات حسبتها قبلات الوداع الأخير.
سمعته يقول لأمي، "علينا الخروج بسرعة والذهاب إلى إجزم، ونهاها عن حمل أي شيء"، وماذا قد تحمل وقد بعنا أغلى ما نملك لنشتري بندقية والدي!
أغلقت أمي باب المنزل بالمفتاح الذي علقته في عنقها، لنتوجه إلى قرية إجزم وهي إحدى قرى حيفا الجنوبية، قرية ليست بهينة على المحتل، وقد أثبتت ذلك بين عامي 1936 – 1939، وتعتبر الحاضنة لثوار ومناضلي ونشطاء حيفا، وربما لهذا السبب أراد أبي الانتقال الفوري إلى هناك.
إلا أن الطرق إلى إجزم مغلقة بحواجز العصابات الصهيونية، إجزم التي صمدت بعد وقوع حيفا ثلاثة أشهر قبل أن تقع بأيدي الصهاينة الذين هدموها بالكامل وهجروا من فيها، وأقاموا على أنقاضها مستوطنة "كيريم مهرال".
كما أغلقت كل الطرق المؤدية إلى أم الزينات ودالية الكرمل وعين حوض والمزار وجبع وعين غزال، ولا يوجد طرق مفتوحة سوى تلك المؤدية إلى البحر. أمي تبكي، والكل يدفع ويصرخ، وأبي صامت، أصوات الرصاص والإنفجارات مستمرة، والآن ثلاثتنا أمام بنادق هؤلاء العصابات، وهناك قوارب ممتلئة بالنساء والأطفال تغادر شاطئ حيفا مجبرة تحت إطلاق الرصاص.
أبي يهمس بأذن أمي، "لن نغادر حيفا"، وقف بالمرة الأولى فصرخوا عليه، وحاول مرة ثانية فصرخوا عليه مجددا، وفي محاولته الثلاثة أخذوه بعيدا عنا ولم نراه من يومها.
همست أمي بأذني، "لن نغادر حيفا"، وكلما حاولت التسلل إلى خلف، تقدمت مجبرة إلى الأمام حيث قوارب التهجير، همسات أمي تعلو وتعلو "لن نغادر حيفا" "لن نغادر حيفا"، دفعوا أمي التي تحملني بقلب القارب والذي ابتعد عن الشاطئ والرصاص ينهال عليه، وأمي تصرخ ،" سنعود إلى حيفا" "سنعود إلى حيفا" "سنعود إلى حيفا".