من الواضح بأن الأوضاع في قطاع غزة قد وصلت إلى مرحلة كارثية، والقطاع برميل بارود متفجر، شرارة صغيرة كافية لإشعاله، واشتعال القطاع لن تكون تأثيرات حريقه ونيرانه وتداعياته المدمرة على مستوى القطاع، بل ستطال مجمل الوضع الفلسطيني، والأوضاع في قطاع غزة تسير بوتائر عالية نحو الانهيار والتدهور، وهناك مؤشرات جدية على عودة حالة الانفلات وفقدان السيطرة إلى قطاع غزة، وخصوصاً فيما يتعلق بعدم قدرة حركة حماس على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه السكان وبالذات ما يتعلق برواتب عشرات الآلاف من موظفيها، الذين جرى توظيفهم بعد تموز/2007، وهذا يعني بالملموس تعمق حالة الفقر والجوع عند سكان القطاع، الذين أصلاً يعيش معظمهم تحت خط الفقر والجوع، ويعتاشون على المساعدات والإعانات الخارجية، وبالتالي الجوع والفقر سيخرجهم عن طورهم وسيدفعهم إلى ممارسات وسلوكيات، قد تحول هذه المشكلة أو الظاهرة إلى شكل من أشكال الجريمة والتي قد تأخذ صفة فردية أو منظمة، فالفقر والجوع من شأنهما أن تجعلا الناس ترد بطريقة غير واعية.
ولعل زيارة بلير مندوب الرباعية إلى القطاع، جاءت ليس من أجل عيون أهل غزة ومصلحتهم والتضامن معهم، فـ"بلير" واحد من أصحاب الرؤيا الإسرائيلية في قضية إعادة الإعمار، وفيما يتعلق بحل الصراع، وهو يرى في نضال الشعب الفلسطيني شكل من أشكال الإرهاب، ويعتبر أغلب إن لم يكن جميع الفصائل الفلسطينية حركات إرهابية، وبالذات حماس منها، وألمح إلى أن الحالة الفلسطينية السائدة وغير المتوافقة، هي المسؤولة عن تأخر عمليات الإعمار ورفع الحصار، وما يشهده القطاع من حالة غليان قريبة جداً من انفجار مدمر، هي من دفعته إلى هذه الزيارة للبحث عن مخارج والتسريع في عملية الإعمار، وبما لا يجعل الأوضاع تنفجر، وكذلك لأول مرة أمين عام ما يسمى بالجامعة العربية نبيل العربي يتكلم بالعربي.. ويقول بأن من يتحمل المسؤولية عن عدم إعادة الإعمار، هما طرفا الانقسام (حماس وفتح)، حيث أن المجتمع الدولي يرفض أن يتم صرف أموال الإعمار والإشراف عليها من قبل حركة حماس، وكذلك فتح تريد من حماس أن لا تكون طرفاً أو شريكاً لا في الإشراف على الإعمار أو أن يبقى عدد من موظفيها على المعابر... فكلاهما يتصارعان على السلطة والنفوذ.... والشعب يواصل دفع الثمن حصاراً وجوعاً وفقراً وتشرداً.... والطرفان ما زالا يواصلان حوارات ولقاءات الطرشان، حيث كل منهما له أجندته الخاصة التي يريد أن تكون هي السائدة... ناهيك عن التدخلات العربية والإقليمية والدولية لصالح هذا الطرف أو ذاك وفوق ذلك "إسرائيل" المستفيد الأول من كل ما يحصل. ويبدو أن الدوران في الحلقة المفرغة وحوار الطرشان هذا سيأخذ القطاع إلى المزيد من الفوضى والعنف، حيث عادت مظاهر الانفلات الأمني والفوضى من خلال التفجيرات ومحاولات الاغتيال والتي طالت العديد من قادة وأعضاء فتح، وكذلك عدد محدود ممن هم محسوبين على حماس.
الجوع والفقر والبطالة دفعت بالبعض إلى التسول أو الانحراف والسرقة وحتى ممارسة البلطجة والزعرنة، التي ربما دافعها الجوع والفقر، وليس السلوك الانحرافي أو الإجرامي.، وربما الضغوط الكبيرة التي تمارس على حركة حماس، من حيث تشديد الحصار وإغلاق المعابر وتدمير الأنفاق ، والبطء الشديد في عمليات الإعمار، وما يشكل ذلك من ضغط جماهيري كبير على حركة حماس، هذه القضايا والظروف الضاغطة قد تدفع بها إلى تحويل "أزمة الجوع" إلى أزمة سياسية منظمة، وبما يحول تلك الظاهرة الاجتماعية إلى جريمة منظمة، من خلال الدفع بموظفيها وأهاليهم وسكان القطاع للقيام بأعمال تخريبية وبلطجة، وهذا يعني انتشار الفوضى والعنف وسلطة المافيات وتعمق العشائرية والقبلية ..الخ.
وكذلك من تهدمت منازلهم بفعل العدوان الإسرائيلي الأخير، معاناتهم مضاعفة سواء بفعل الأفراد، أو البرد الشديد والأمطار والثلوج، حيث الخيام والكرفانات لا تقيهم لا البرد ولا الأمطار والثلوج.
لا حلول في الأفق القريب فحكومة الوفاق الوطني دورها في غزة شكلي ومظهري أكثر منه عملي، فهي لا تقف على هموم ومشاكل أهل القطاع المتراكمة والمتزايدة يوماً بعد يوم، ولا تقدم الحلول التي تمكن الناس من العيش بالحد الأدنى من الحياة البشرية والإنسانية، وفي المقابل لا توافق بين الحكومة وحماس على إيجاد آليات تمكن الحكومة من ممارسة دورها وصلاحياتها في القطاع.... وتضخم أعداد موظفي حكومتي غزة ورام الله وعدم قدرة حكومة الوفاق على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه موظفي حكومة حماس الـ(40000)، يصعب من الحلول للمشكلة، فحكومة الوفاق بعد وقف "إسرائيل" تحويلها لأموال الضرائب الفلسطينية للسلطة، غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها.
علينا أن نتحدث بوضوح مشكلة المشاكل، التي تعيق الإعمار ورفع الحصار بشكل أساس، مشكلة رواتب حكومة حماس الـ(40000)، وهي مشكلة بحاجة إلى حل جدي وحقيقي، ويجب أن لا يتم إخضاع المسألة هنا إلى الابتزاز السياسي، ولا أحد يقبل بتجويع عشرات الآلاف من أبناء شعبنا في القطاع لكونهم من حركة حماس أو عائلاتهم مرتبطة بها بشكل أو آخر، وكذلك وكذلك من غير المعقول الاستمرار في اختطاف القطاع تحت هذا البند والخلاف.. لقمة عيش الناس تمس جوهر حياتهم،وخروجهم عن طورهم والتصرف بلا عقلانية، قد يكون مبرراً، فالكثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ قامت بفعل الجوع.
المجتمع الدولي لم يف بالتزاماته ووعوده بتقديم أموال الدعم لقطاع غزة، وكذلك المحادثات مع دولة الاحتلال بالرعاية المصرية، لم تستأنف سواء بسبب الظروف التي تمر بها مصر، أو بسبب الخلاف الداخلي الفلسطيني، و"إسرائيل" تريد أن تحصد النتائج والمنافع من العدوان والإعمار، من حيث التحكم بالإعمار المواد المسموح بدخولها أو عدمه، وأن يتم إدخال تلك المواد من خلال المعابر المتحكمة بها، وشراء المواد اللازمة للإعمار من مصانعها.
لكي يتم سحب ونسف الذرائع الأمريكية والإسرائيلية وغيرها، في عدم وفاء المجتمع الدولي بالتزاماته بإعادة الإعمار ورفع الحصار، يجب أن يتحلى الجميع بالمسؤولية الوطنية، وأن يكون هناك شراكة وطنية حقيقية، فالعودة إلى سياسة المحاصصة والتفرد بالقرار، لن تقود بالقطاع إلى الخروج من أزماته المركبة والمتداخلة، وكذلك سياسة الردح والردح المضاد، والاستقواء بالخارج لنصرة هذا الطرف أو ذاك ليست عنوان الحل، بل هي تكريس وتفاقم للأزمات.
منع برميل البارود من التفجر والتدمير الذاتي في القطاع، هي مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى، وهذا غير ممكن بدون شراكة سياسية حقيقية، بعيدة عن منهج وثقافة الإقصاء، شراكة تحفظ للناس كراماتها، وتضمن لهم العيش الكريم لا قطع الأرزاق، ورغم ضخامة العبء والحمل والمسؤولية، فبالتعاون والعمل الجماعي نجد الحلول، فهل يعي الجميع مسؤوليات، أم نستمر في مسلسل التخريب والدمار الذاتي..؟؟