شبكة قدس الإخبارية

الأحزاب الفلسطينية.. هل هي سبب المأساة؟

٢١٣

 

رؤوف حواري

 أصحاب البرستيج الوطني الأكثر رواجاً في هذه الأيام هو من يسوّق لفوبيا الأحزاب على اعتبار أنها "رجس من عمل الشيطان فاجتنبوها" والبروباغيندا التي يحملها من تلبّس هذه النظرية عن الناس "المسيّسين" وكأنّ في بداية الطريق تم وضعهم تحت خيارين: إمّا الوطن وإمّا الحزب، فاختاروا الحزب. باعتقادهم الجازم أنّ كلّ الويلات التي حصلت وتحصل عنوانها الرئيس: بقاء الأحزاب، وأنّ الحل في فنائها والنضال في إطار تخيّلي لم يضع أحد ملامحه سوى ببعض الشعارات المثالية والظروف التي لم تعايشها أي مجموعة بشرية في التاريخ الإنساني بعد.

على مدار أكثر من عشرين عاماً تم وضع قضيتنا الوطنية والبيئة الاجتماعية الحاضنة لها لعدد هائل من تجارب التدجين والتحريف، كان من أبرزها هو تشويه مفهوم الحزب، بدايةُ بتصفية القيادات الحزبية أو التنكيل بهم والإبقاء على المنتفعين، وانتهاء ببناء السد الكبير بين الأحزاب والجماهير، فلا أحد ينكر الأزمة التي تعاني منها جميع الأحزاب الفلسطينية وأنها انعكاس واضح لما آلت له جموع الناس وعلاقتها مع القضية الوطنية.

وبالتالي في ظل كل هذا الانحدار هل المطلوب هو إقصاء الأحزاب أم إعادة بناءها؟، وإعادة البناء بالانضواء في داخلها والإصلاح من القاعدة أم انتظار مخلّص من السماء حتى تعود الروح إلى أوّل عهدها؟

بالتأكيد هذا ليس موضع للمزاودة وذكر مقارنات لحجم ما يتعرض له كلّ من الطرفين، بناءً على ما يشكله كل توجّه من خطر ضد الاحتلال أو أي سلطة قمعيّة أخرى، "المسيّسون" من تهديد لحريتهم وحياتهم في بعض الأحيان، في مقابل من امتهن التنظير والنقد وأضحى مثقفاً متخصصاً في منهاضة العمل المحزّب وهو في الأغلب غير مستعد لدفع تكلفة ما يقدّمه غيره

من الأحزاب إلى الـ"إن جي اوز"

في مراحل الازدهار النضالي طالما عملت مؤسسات العمل الأهلي بجانب الأحزاب السياسية بعلاقة تكاملية وبمصادر تمويل مضبوطة سواء محليّة أو خارجية لكن موجّهة في سياقها المجمع عليه نحو ثوابت واضحة، ثم جاءت انتكاسة العمل السياسي مترافقة مع تمدّد وتوغّل مؤسسات التمويل الأجنبي داخل بنية المجتمع لتأخذ الفراغ الواضح بين الجماهير والهويّة الجامعة لهم، وشهدت تلك المرحلة انتقال فئة من "مناضلين" في الأحزاب إلى "خبراء" في مؤسسات الـ"إن جي اوز"، بحيث أصبح المشهد خليطا بين أهداف المموّل ونزعة الفرد في صبغ صفة العمل الوطني على إنجازه، والنتيجة هي بأعمال مميّعة ذات نتائج غير واضحة تسوّق على أنها إنجازات بأثر عظيم على المجتمع، الشواهد كثيرة على مفارقات ما قبل هذه المرحلة وما بعد، فعلى سبيل بعض الأمثلة لا الحصر: المرأة التي كانت تخرج من مدارس الأحزاب لتقود النضال وتشارك في تعبئة الجماهير نراها اليوم في مخرجات المؤسسات بجيش من النساء "المتحرر" لا يمتهن أكثر من تسيير ورش العمل والمحاضرات في القاعات المغلقة وعزلة أكبر في المحيط المجتمعي، إضافة لمشهد انحدار قيم العمل التطوعي على الرغم من أن الكثير من المؤسسات تدّعي أن هذه القيم هي على رأس أهدافها ولكن تبقى شواهد النفقات في مكافآت المتطوعين والتمويل المدلّل للأعمال تطوعية تسهم في تعزيز مفهوم "العمل التطوعي المأجور".

لماذا الحزب؟

التاريخ يعلّمنا أنّ لا حركة ثورية تحقّق أهدافاً من دون تنظيم للجماهير، عن طريق عمل مدروس ومنظّم محدّد السمات وواضح الأهداف، ولنا في تاريخ الكفاح الفلسطيني مشاهد واضحة في ترتيب صفوف الجماهير وتوجيههم نحو الهدف الجامع لهم، ومن دون أن نبتعد كثيراً في متاهات الماضي: التجربة المعاشة في الربيع العربي تبدو مناسبة للإجابة على السؤال المطروح، تم السيطرة على حركة الجماهير العفوية بعد أن خرجت جموع الناس لقضايا مطلبية ونابعة من روح معاناتها، لتجد نفسها أوراق لعب في يدِ المنتفعين والقوى الخارجية تارةً، وفي يدِ الفوضى وعدم وضوح الرؤيا تارةً أخرى.

في توضيحه لماذا تتم السيطرة على الجماهير بحركتها العفوية وسهولة حرفها عن مسار البداية يرى لينين في كتاب "ما العمل" أن الأيديولوجيا التي تسيطر على المجتمع تكون الأقدم بالضرورة مقارنة بالفكرة المعارضة وبالتالي تملك الأدوات الأقوى للسيطرة والهيمنة على حركة الجماهير العفوية وحرفها نحو تشويه الأهداف والاحتواء"، مما يدلّل في نظره على أن القواعد التنظيمية في الحزب هي الوسيلة التي من خلالها يمكن السيطرة على الميول الفوضوية لدى بعض الأعضاء أو المجموعات الصغيرة مع التأكيد على مرونة الحزب التكتيكية.

العمليات البطولية التي شهدتها الساحة الفلسطينية خلال الفترة الأخيرة والتي أخذت صفة "الفردية" في العمل وباستخدام إمكانات بدائية، تحيل للذاكرة تجربة "النسر الأحمر" وهي مجموعات برزت في أوج قوتها خلال أعوام الانتفاضة الأولى لتكون قوة ضاربة جسدت شعار "دعم الانتفاضة بالنار"، اعتمدت في أغلب هجماتها على وسائل بدائية وإمكانات بسيطة نجحت في تصفية الكثير من الصهاينة وعملائهم وضرب مصالحهم، "البلطة والسكينة" الملوتوف والقنابل اليدوية، كانت أبرز الأسلحة التي شكّلت معادلة نجحت في تشكيل ثقل لعمليات موجعة ومحكمة، والأهم من ذلك أنها حافظت على استمرارية النهج والعمل المقاوم لها بسبب كونها جزء من عمل تنظيمي للجبهة الشعبية واستراتيجية متكاملة. هذه العمليات التي تحصل الآن لن تكون أكثر من محاولة بدون جدوى لإشعال نار في مكان تملأه الرطوبة إذا لم تشهد الساحة الوطنية بالتزامن تنظيمات تتبنى هذا الأسلوب قولاً وفعلاً وتسعى لديمومة انتشاره، كي يفرز المجتمع حواضن شعبية تحمي من يقوم بالفعل، إضافة لتجسيد العمل التراكمي في النضال الوطني ونفي النظرية المجتمعية السائدة "خرّب حياتو ع الفاضي".

هذا الحديث لا يحاول تبرئة الأحزاب من انتكاساتها وانحرافها عن قواعدها وبوصلتها، وضرورة بناء الرؤيا والهدف الذي سيساعد القواعد الشعبية على إعادة الالتفاف نحوها، كبداية للتخلص من إرث سنوات طوال أعاثت في الوعي الجمعي فساداً وتشويهاً وأدخلت مفاهيم للقضية الوطنية لم تزد الشارع إلا خدراً وعجزاً.