كفلسطيني، سأنسى أننا نفاوض "إسرائيل" منذ واحد وعشرين سنة على حل الدولتين بلا طائل، سأنسى أن الاستيطان في فلسطين، وقد كان هو الحجة الأقوى لدعاة مفاوضات السلام مع إسرائيل، من باب إنقاذ ما تبقى من الأرض قبل مصادرتها، قد تضاعف ثلاث مرات أو أكثر منذ بدء التفاوض.
سأنسى، أن العرب الفلسطينيين اليوم أقلية لا في مدينة القدس الموحدة فحسب، بل في النصف الشرقي من المدينة الذي تعدنا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بأن المفاوضات ستأتي به لنا لنقيم فيه عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة.
سأنسى أن هذه المفاوضات تخللها اجتياح شامل للضفة الغربية عام ألفين واثنين، واغتيال رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بالسم عام 2004، واغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، واغتيال مؤسس حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين أحمد ياسين، واغتيال قادة كثيرين غيرهم ميدانيين وسياسيين من كافة الفصائل الفلسطينية.
سأنسى، رغم صعوبة ذلك، أن هذا السلام جر على غزة ثلاث حروب من أعنف ما شهدته في تاريخها عام ألفين وثمانية وألفين واثني عشر وألفين وأربعة عشر. سأنسى كل ذلك، وأفترض أن إسرائيل فعلت عكسه تماما، وأعطتنا دولة فلسطينية حرة مستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام سبعة وستين بما فيها القدس الشرقية، ثم أرجو منك يا سيدي القارئ أن تنظر إلى مآلنا ومآل قضيتنا إذا تم ذلك.
إن دولة فلسطينية تقام على الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" عام سبعة وستين، ستكون بالضرورة منكشفة عسكريا وتابعة اقتصاديا لـ"إسرائيل". إن المنطق الأصلي الكامن وراء عملية السلام، مبني على فرضية أن الفلسطينيين يريدون استقلالا وأن الإسرائيليين يريدون أمنا وأن الحل يكمن في تصميم استقلال فلسطيني يحفظ أمن "إسرائيل". وعليه فإن شرط وجود الدولة الفلسطينية لن يكون إلا ضعفها.
لن يسمح لها بتكوين جيش قوي، ولا بالدخول في أية أحلاف عسكرية إقليمية مناوئة لإسرائيل، إنما سيطلب منها تكوين أجهزة أمن وقمع ضخمة وفعالة، لا لحماية مواطنيها، بل لحماية "إسرائيل" من مواطنيها. وأكثر من ذلك، سيضمن موقع هذه الدولة الجغرافي أن تتطابق مصلحتها مع مصلحة "إسرائيل" الإستراتيجية.
فعلى سبيل المثال، في حال ظهر أي تهديد عسكري على "إسرائيل" من الجبهة الشرقية، فإن "إسرائيل" ستفضل أن تدور المعارك على أراضي الدولة الفلسطينية الجبلية لا على السهل الساحلي الضيق حيث الثقل الاقتصادي والديمغرافي لإسرائيل. وعليه فإن أي تهديد لها من الشرق سيكون تهديداً لهذه الدولة الفلسطينية كذلك وسيكون من مصلحتها أن يسود في المشرق جو سياسي وعسكري لا يؤدي لهجوم كهذا.
كذلك فإن هذه الدولة ستكون موكلة بحماية "إسرائيل" من أي هجوم فدائي تقوم به تنظيمات شعبية من أراضيها، وإلا قامت "إسرائيل" بتأمين نفسها عبر اجتياح أراضي هذه الدولة الفلسطينية.
أما من الناحية الاقتصادية فإن شركات تؤسس في الدولة الفلسطينية ويملك أسهمها إسرائيليون ستقوم بالتسويق للسلع والخدمات الإسرائيلية في العالم العربي، كما ستقوم طبقة من رجال الأعمال الفلسطينيين بدور الوسيط بحيث يسوقون في "إسرائيل" عمالة فلسطينية رخيصة ويسوقون في الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة للبضائع الإسرائيلية. وسيكون في فلسطين أفراد أغنياء ومجتمع فقير، بمعنى أن العامل الفلسطيني الذي يعمل في الداخل المحتل سيحصل على دخل أعلى من العامل العربي في البلاد المجاورة، وكذلك رجل الأعمال الفلسطيني الذي يقوم بدور الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين أو بين "إسرائيل" والأسواق العربية، ولكن لن يُسمح للعامل ولا لرجل الأعمال أن يستخدموا أية فوائض اقتصادية يحرزونها في إنشاء مصانع فلسطينية أو تأمين أي نوع من أنواع الاستقلال الاقتصادي والتنمية غير التابعة لإسرائيل.
ومن الناحية السياسة أيضاً، ستقوم الدولة الفلسطينية بدور مدير التسويق لـ"إسرائيل"، لأنه إذا سالم أصحاب القضية قامت بهم الحجة على بقية العرب ممن لم يرضوا بالسلام مع "إسرائيل". وستقوم كل الدول العربية والإسلامية أو معظمها باستخدام الموقف الفلسطيني لتبرير إقامة علاقات تطبيع كاملة مع إسرائيل أمام شعوبها.
إن حدود هذه الدولة وصفاتها الجغرافية والديمغرافية ستفرض عليها أن تكون بديلة للاحتلال قائمة مقامه فاعلة فعله نائبة عنه، تقوم شرطتها بحمايته، ويقوم سياسيوها بالتسويق للسلام مع "إسرائيل" في العالم العربي والإسلامي، ويقوم اقتصاديوها ببيع منتجات الاحتلال لمواطنيها وللعرب.
إن دولة فلسطينية كهذه، ستكون ديكتاتورية بالضرورة، لأنها تقوم على إعادة تعريف فلسطين والفلسطينيين بطريقة لا ترضي أكثرهم. فاللاجئون الذين يشكلون ثلث سكان الضفة الغربية وثلثي سكان غزة، سيفقدون أي حق في العودة، وكذلك ملايين اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين التاريخية. ولو كانت الدولة الفلسطينية ديمقراطية فإن هؤلاء سينتخبون قوى سياسية تصر على حقوقهم في العودة، أي تصر على مواصلة الصراع مع "إسرائيل" بما يهدد وجود الدولة الفلسطينية من أساسه.
ولذلك فإن القمع سيكون عصب حياة هذه الدولة. فإذا غابت الديمقراطية، كان من الآثار الجانبية لغيابها انعدام الرقابة الشعبية على ماليات هذه الدولة، فينتشر فيها الفساد. فتفشل حتى الخطة الإسرائيلية الأمريكية لرشوة الفلسطينيين، وأهل المخيمات منهم على الخصوص. فيكون فقراء الفلسطينيين بلا حقوق سياسية وبلا مال، ما يزيد من توترهم ومن خوف الدولة الفلسطينية منهم وبالتالي من قمعها لهم.
إن دولة فلسطينية تنتجها عملية السلام لن تكون إلا نسخة أخرى من الدول العربية المحيطة بها التي أنشأها الاستعمار، وستواجه، في المستقبل، نفس الفشل الذي تواجهه تلك الدول اليوم، إن الثورات والحروب الأهلية العربية ما هي إلا تعبير عن فشل المشروع الاستعماري، وإنه لمن العجب العجاب أن يسعى بعضنا نحن الفلسطينيين إلى تكرار كوارث التاريخ العربي ونحن نرى عواقبها أمامنا.
إن الدولة العربية التي يصممها الاستعمار لخدمته مصيرها إما أن تحتل، أو أن تنفرط في حرب أهلية، أو أن يثور أهلها عليها وعلى المحتل فنرجع إلى حال المواجهة التي كانت الدولة محاولة للخروج منها أصلا.
إن الالتزام بمقاومة الاحتلال ومقاومة الصهيونية كنظام سياسي، على كامل التراب الوطني الفلسطيني هي خطة أنجع، فهي قابلة للنجاح على عكس مشروع الدولتين، وتوفر علينا وقتا ودما كثيراً.