طه طبيلة-شبكة قدس: عجوز كهل يأخذ حبة الضغط، وامرأة قروية بجانبي لا يفتر لسانها عن الصلاة، سبعة ركاب غيري لا أعرف منهم سوى السائق لكثرة سفري معه، ساعات الغسق الأولى، المسجل يبث قراءة القرآن بصوت خافت، رائحة الفجر ممزوجة برائحة حرائق مزارع الغور، السائق يدخن بشراهة وكأنه آخر مرة يدخن فيها، حشرات فضولية ترفرف حول التاكسي، وبائع قهوة من أبناء المنطقة يدخل رأسه داخل السيارة لعرض بضاعته وآملاً في الحصول على نظرة من حسناء يتصبح فيها.
وصلنا الشرق من أريحا، جميع السيارات تقف هنا في طابور أعوج، شخص بزي رسمي يسمح للبعض بتخطي الدور، أكثر من ستين عاماً وشعبي ما زال يجر حقائبه يدوياً وينتظر ويتخطى الدور.
أحد الحمالين توسم في الخير، أتى وتناول مني حقيبتي التي لا يشكل حملها عبئاً علي، وضعها في مكان الحقائب المخصص، هذا واجبه وعمله، فقد دفعت أجرتي للحافلة وأجرة الحقيبة أيضاً، همس حمال آخر في أذني: "قدر ما تجود به نفسك، أكرمه"، هل سأساهم في الخراب حين أدفع شيكلين أو خمسة؟ سأغدو راشياً، والراشي والمرتشي والرائش في النار، لا أتحمل صيف أريحا لأجرب النار، امتدت يدي إلى جيبي، ناولته بعض الشواكل وأخذها على قلتها.
دخلت الاستراحة على أمل أن أجد "عبدالله"، لم أجده! مواعيده العربية اعتدت عليها، لكن لا حاجة لتكرار اتصالي به وتوبيخه على التأخير، لن يتغير هذا الشاب!. اعتدت في الفترة الأخيرة مرافقته في السفر، نلتقي في استراحة أريحا، وينتهي بنا المطاف عند مطار الملكة علياء الدولي، أودعه عند بوابة الرحلة المتجهة إلى الرياض، وأبقى إلى منتصف الليل حتى يحين موعد النداء الأخير لطائرة دبي.
"عبد الله"، طالب السنة الثالثة بكلية الهندسة في جامعة النجاح الوطنية، انزوى مع نفسه هذا العام ليتدارك المواد التي فشل بتخطيها، لكن ما حدث في غزة الصيف الماضي جعله يبدو ناشطاً وناصراً لها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
صفحته في الفيسبوك التي كانت تمتلئ كل يوم بروابط أغاني الروك، وصور ليدي جاجا وجاستين بيير، لم أتخيل يوماً أنني سألجئ لها لغرض معرفة آخر أخبار غزة ومستجداتها رغم كرهه البغيض للحديث عن السياسة وأحزابها، "عبدالله" منع من السفر لهذه التهمة، تهمته أن صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي كانت كوكالة أنباء تفضح ممارسة الاحتلال، آخر ما قال له الضابط: "فش سفر خبيبي خلي خماس تنفعك".
عقوبة المنع من السفر برزت بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وحولت الضفة المحتلة إلى سجن كبير، حتى أولئك البعيدين عن السياسة وكبار السن والنساء منعوا.
المنع يشمل الجميع
عمر المصري أحد تجار مدينة نابلس، تفاجئ منتصف شهر آب لدى وصوله إلى معبر الكرامة بإبلاغه أنه ممنوع من السفر لأسباب أمنية، رغم أنه منذ عشر سنوات يسافر عبر المعبر ولم يتم إرجاعه في أي مرة.
يقول المصري: "سألت الضابط المسؤول عن سبب المنع، فقال لي لأسباب أمنية، وعندما قلت له أنها المرة الأولى التي أمنع فيها من السفر، أجابني أنتم قررتم مقاطعتنا، إذا لا تستخدموا هذا المعبر".
تصاعد هذه السياسة الإسرائيلية بدأت على أهالي الخليل أولاً منذ اختطاف الجنود الثلاثة حتى العدوان الأخير على غزة، والذي تكبد بجيش الاحتلال خسائر فادحة، لتظهر هذه السياسية الانتقامية على كل ما هو فلسطيني، وهو ما بدأ واضحاً من تعليقات الضباط والجنود المتواجدين على معبر الكرامة، والتي تعبر عن مدى الحقد في صدورهم.
الناشط والساخر السياسي "علي قراقع" من الخليل يقول: "تم منعي صيف هذا العام من السفر مرتين، عندما كنت متوجهاً إلى الأردن لشؤون خاصة، التقيت بأطباء ونساء ومسنين وأطفال وطلاب جامعات ومواطنين يحملون جنسيات أوروبية منعوا من السفر دون أي تهمة أو سبب". الطالب أحمد الطنبور، الذي يدرس الصيدلة في إحدى الجامعات المصرية في سنته الثانية، عاد إلى عائلته في نابلس ليمضي بينهم شهر رمضان وعيد الفطر، أمضى إجازته منتظراً بقلق موعد السفر للعودة إلى جامعته، وحال الأمر إلى تأخره، لينحرم من مساقين بسبب الغيابات الذي تخطت الحد الأدنى.
أما مهندس الاتصالات أشرف أبو غالب، فقد حزم حقائبه عدة مرات خلال شهر حزيران الماضي للالتحاق بفرصة عمل في إحدى دول الخليج، لكن الاحتلال كان يعيده في كل مرة.
يقول أشرف: "حصلت على فرصة عمل مميزة في جدة، وبعد أن أنهيت كل الإجراءات المطلوبة، منعت من السفر، ورغم تمسك الشركة بي إلا أنهم في المرة الأخيرة أبلغوني أنهم مضطرون لتعيين موظف آخر بدلاً مني".
المنع من السفر ليس بالأمر الجديد بالنسبة لأهالي الضفة، فهو إجراء قديم من الاحتلال، وتصاعدت هذه السياسة في الشهور الأخيرة، الدكتور فريد أبو ضهير المحاضر في كلية الإعلام بجامعة النجاح الوطنية يمثل نموذجاً لمنع سلطات الاحتلال السفر بحجج أمنية، يقول: "أنا ممنوع من السفر منذ عام 2006م بتهمة علاقتي مع جهات معادية لإسرائيل في الخارج وهو ما يشكل خطورة على أمن إسرائيل على حد قولهم".
وعلى تأثير المنع عليه، يعقب أبو ضهير: "انتهاك الحق في التنقل والسفر انطوى على حرماني من المشاركة في مؤتمرات دولية وتغطية بعض الفعاليات العالمية".
حديث مع شرطة "الكرامة"
من ناحيته، صرح مدير شرطة المعابر المقدم مصطفى دوابشه مؤخراً بأن: "شرطه معبر الكرامة تقوم بتسهيل سفر الأهالي، لكن لدى وصولهم إلى الجانب الإسرائيلي لا نستطيع التدخل، القرارات التعسفية التي اتخذت بحقهم مؤخراً ودائماً الذريعة الأمنية حاضرة لديهم، تعجزنا عن فعل شيء، رغم ذلك نسقت الشرطة لتنقل عشرات الأشخاص من ذوي الإعاقة بين جانبي المعبر، حيث يتم نقلهم في حافلات مخصصة مع ذويهم بالمجان، والأجهزة الأمنية والمدنية في الإدارة العامة للمعابر والحدود قدمت العديد من التسهيلات والخدمات لكافة المواطنين".
في حين أكد مدير العلاقات العامة والإعلام في شرطة معبر الكرامة إياد دراغمة بأن حركة السفر على المعبر عادت إلى طبيعتها تقريباً بعد فترة إرجاع لمئات المسافرين، رغم أنه لا ضمانات على الاحتلال الإسرائيلي.
ويضيف دراغمة: "السلطات الإسرائيلية منعت في عام 2013م خروج 1266 فلسطينياً إلى الأردن من بين نحو 700 ألف مسافر، وفي حزيران من هذه السنة منع خروج 1463 شخصاً من بين نحو 68 ألف مسافر".
من ناحية قانونية لا يجوز لإسرائيل حرمان المواطنين الفلسطينيين من التنقل إلى خارج الوطن، وكما يؤكد المحامي القانوني سميح الهدهد فإن وبحسب القانون الدولي لا يحق لسلطات الاحتلال منع الفلسطينيين من السفر، مشيراً أن هذه الإجراءات هي مخالفة للقانون والمواثيق الدولية، وتندرج تحت بند جرائم الحرب.
ويضيف الهدهد: "هذه الإجراءات التعسفية التي يمارسها الاحتلال ستكون ضمن اختصاص لجنة التحقيق الدولي التي أقرها مجلس حقوق الإنسان مؤخراً، والتي من المقرر أن تحقق في كافة الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية".
الإجراءات الإسرائيلية لم تتوقف عند إرجاع المسافرين عن معبر الكرامة، بل رافق هذا سياسات عديدة تهدف إلى الانتقام، بالمماطلة في إتمام الإجراءات للمسافرين العائدين، مما تسبب في تكدس آلاف المسافرين على المعبر بانتظار السماح لهم بالمرور، الأمر الذي أصابهم بالإرهاق خاصة في ظل الأجواء الحارة.
فما أن انتهينا من تدقيق الجوازات عند الطرف الإسرائيلي حتى انتظمنا مرة أخرى لنفحص أجسامنا وحقائبنا اليدوية، ساعاتنا، معاطفنا، نخرج نقودنا ومفاتيحنا، كل ما هو معدني، نتعرى من ملابسنا، نتعرى من كرامتنا، لنمر من بوابة الفحص، في هذا الأثناء اندفعنا بلا انتظام، وهذا لم يرق لثلاثة جنود شباب، صرخوا إلى الوراء تكراراً، صوتهم مزعجاً، بدونا صغاراً في نظرهم، سمعت ضابط إسرائيلي يحاول تأليب الفلسطينيين على المقاومة وتحمليها مسؤولية ما يصيبهم من المعاناة بقوله: "خلي حماس تحفر لكم نفق بدل المعبر"، يد تغلق شباك التصاريح تسد الدرب في وجه الزحام، لم أتمنى أن أكون هنداً التي أكلت كبد حمزة، حقدي رهيب، ألف هند تحت جلدي.



