ربما لذكرى رحيل القادة العظام هذا العام طعم آخر، حيث تتعانق مع نفحات نصر سطرته كتائب المقاومة الموحدة في غزة التي خاضت أروع آيات الملحمة والبطولة، في معركة غير متكافئة مع الاحتلال الإسرائيلي استمرت 50 يوما من العزيمة والحنكة والرغبة في الانتصار.
كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس، سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، كتائب أبو علي مصطفى الذراع العسكري للجبهة الشعبية، وكتائب شهداء الأقصى الذراع العسكري لحركة فتح، وألوية الناصر صلاح الدين الذراع العسكري للجان المقاومة الشعبية، وغيرهم كانت ضرباتهم واحدة وعقولهم واحدة على قلب رجل واحد، همهم الوصول بسفينة الشعب المحاصر إلى بر الكرامة والحياة الإنسانية.
كانت هذه الكتائب المباركة تضرب "ناحل عوز، وأسدود وعسقلان وكرم أبو سالم، والعين الثالثة، والنقب المحتل، إلى تل أبيب وحيفا اللد، دون كلل أو ملل، لتقول لمن سلموهم الراية من بعدهم أن زرعكم قد أثمر ليس رصاصا وبنادق فحسب، وإنما مدافع وصواريخ تدك العدو في حصنه المنيع".
مع نفحات العز هذه، تطل علينا ذكرى رحيل القائد الوطني الشهيد أبو علي مصطفى، الذي كان من بعده هذا الاسم سطر من سطور العز التي صنعت النصر لشعبنا المقاوم في غزة فكانت صواريخه تضرب مواقع الاحتلال دون كلل لتذيق الاحتلال ألوانا من العذاب والخيبة.
انطلاقة جديدة للعمل المقاوم
اغتالت طائرات الاحتلال القائد أبو علي مصطفى، ليكون استشهاده باكورة انطلاق لعمل نوعي مقاوم، نفذته سواعد الجناح العسكري للجبهة الشعبية وكان الثأر عاجلا غير آجل، فطالت أيديهم رأس الإرهاب الإسرائيلي حينها "رحبعام زئيفي".
وباغتيال القائد أبو علي بدا جليا في صيف 2001 أن الاحتلال اعتمدت الاغتيالات السياسية، كخيار ضد قادة فصائل المقاومة وكوادرها، ضمن أهدافها وخططها لمواجهة الانتفاضة، والتي وصلت ذروتها باغتيال أبو علي مصطفى، بعد أقل من شهر من اغتيال القياديين في حركة حماس جمال سليم وجمال منصور في مدينة نابلس.
وكان اغتيال أبو علي مصطفى بصفة كونه أمين عام يتم اغتياله منذ قيام السلطة، ما شجع إسرائيل على المضي قدما بهذه السياسة في ظل ضعف الردع الفلسطيني والعربي والدولي لها، على الرغم من انتهاكها القانون الدولي، وهو الأمر الذي مهد في ما بعد لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، وحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقر الرئاسة في رام الله حتى اغتياله في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004.
لماذا اغتيال "أبو علي"؟
يعتبر اغتيال أبو علي مصطفى اغتيالا سياسيا بامتياز، نظراً للمناصب السياسية التي تبوأها والدور النضالي المنوط به من خلال الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير باعتباره عضوا لعدة سنوات في لجنتها التنفيذية. ولو نظرنا إلى سيرة أبو علي مصطفى النضالية لوجدنا انه كان من أوائل المنتسبين إلى حركة القوميين العرب في عام 1955، وأحد المؤسسين للجبهة الشعبية إلى جانب الدكتور جورج حبش، وتولى مسؤولية الداخل في قيادة الجبهة، كما شغل منصب نائب الأمين العام للجبهة في المؤتمر الثالث عام 1972، إضافة الى عضويته في المجلس الوطني منذ عام 1968، والمجلس المركزي الفلسطيني، واللجنة التنفيذية ما بين عام 1987 1991.
وكان لدى سلطات الاحتلال أكثر من سبب لاغتيال "أبو علي" بعد أن قامت بدراسة ملفه بعد عودته إلى فلسطين عام 1999. ولا يخفي على أحد - بحسب نائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح "الدور الذي لعبه الشهيد خلال انتفاضة الأقصى، ومواقفه الوطنية، وعلاقته الطيبة بالفصائل والقوى الوطنية، وخطه الوحدوي الذي انتهجه مع مكونات المجتمع الفلسطيني، إضافة الى صلابته النضالية، والمواقع المؤثرة التي تبوأها في الجبهة الشعبية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتاريخه الوطني المشرف منذ العام 1952 حتى استشهاده في 2001".
وقال ملوح: "لم يدخر "أبو علي" جهدا طيلة حياته، من أجل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بجميع السبل والطرق، بدءا من الكفاح والمقاومة المسلحة، أو من خلال عودته إلى الوطن، أو عبر العمل الجماهيري والسياسي الذي قام به، لتكريس أهداف شعبه، غير عابئ بحياته الشخصية، والمخاطر التي كان يتعرض لها. وبذلك هدفت إسرائيل من اغتياله إلى توجيه ضربة للحركة الوطنية وتشتيت الصف الفلسطيني، وإضعاف الجبهة الشعبية".
"أبو علي" رحل إلى حيث اختار بنفسه
اختار أبو علي مصطفى قدره عندما اختار طريق النضال، أن يكون حيث يؤمن ويقتنع، حيث اللهب ومتطلبات النضال، حتى لو كلفه ذلك حياته، ولأن أبو علي اختار قدره فقد اختاره القدر ليكون قائدا قدوة في النضال والتضحية.
أبو على مصطفى مسيرة وسيرة، مسيرة طويلة من النضال والعطاء والتضحية تكللت بالشهادة، وسيرة نبيلة وعطرة جعلته يتبوأ مكانة كبيرة في التاريخ الوطني الفلسطيني وفي قلوب الفلسطينيين، ويكون علامة بارزة في العطاء والفداء.
أبو علي مصطفى، منذ طفولته إلى شبابه إلى استشهاده، إنسان طلع من قلب الشعب، كان شعببياً لا نخبوياً، يجمع بين اللطافة في التعامل والحزم في المواقف، صاحب نكتة لكنه قابل للغضب إزاء الظلم والعوج والانتهاكات.
أبو علي مصطفى هو من القلة القليلة من القادة الذين يتصفون بالمحبة والاحترام والهيبة، وعندما وُلد في عرابة عام 1938 ودفن في ترابها عام 2001، بعد 63 عاماً من الكدح والكفاح والعطاء، في صفوف الشعب وفي صفوف المناضلين، في الوطن.. في المنافي.. ثم في الوطن، فإنه لم يفعل سوى أن خاض رحلة إنسان حقيقي، غاية في البساطة والانسجام: من الجذور.. إلى الجذور.