* توافقاً مع فلسفة شبكة قدس في نشر الآراء المختلفة وتبادلها، ننشر ردّ علاء حليحل على مقالة سبق نشرها على موقع الشبكة لهنادي قواسمي (الرابط هنا)
يتميّز مقال هنادي قواسمي الذي ردّت فيه على مقالتي "طفل صغير في ظلّ الشيطان"، المنشورة بالعبرية والإيطالية، بميزتين اثنتين أساسيتين: التخوين والاستهزاء برأي الفلسطينيّ الذي لا يعجبها، والتفلسف الزائد الذي يميّز حالة الخصي التي نحياها كمجتمع منذ الانتفاضة الثانية، ولجوئنا إلى نظريات بوست كولونياليّة، لا نعرف منها عادة إلا كلمة "استعمار"، ومحاولة طعج كل ما يُقال ولا يعجبنا، من أجل تحقيق هاتين الميزتين. الميزة الثالثة التي يتصف بها المقال هي التعامل مع الإسرائيليين وكأنهم شيء واحد كلهم. أنا أعرف أنّ هذا الكلام لا يعجب "المثقفين" الذي يتعاملون مع الواقع من خلال حقد وكراهية لا يتركان مجالا للنظرية العلمية المتأنية، ولكن الإسرائيليين غير متجانسين؛ النظر إليهم باعتبارهم "المجتمع الصهيونيّ" وكأنهم قطعة خشبية واحدة، هو جهل وقصر نظر وهو مسؤول عن الكثير من الحماقات التي يرتكبها المتعامون من أهل الثقافة المتشنجين من أبناء شعبي. رفض التعامل مع المجتمع الإسرائيلي باعتباره مجتمعا يسير وفق مصالح وأهواء وتغيّرات وتبدلات تلعب به ومن خلاله، هو تعامل شعاراتيّ ولّى عليه الزمن. القضية الفلسطينية ليست شعارات ثوريّة رنانة ولا أدلجة الكراهية العمياء النابعة من العجز وحالة الشلل. من يحب فلسطين عليه أن يفتح عينيه على وسعهما وأن يرى الواقع بكل دقائقه وتفاصيله.
ليست وظيفة المثقف أن "يُصبّر شعبه ويبث فيهم التحدي والانتماء" كما تقول قواسمي. هذه وظيفة المثقف الفاشي الذي يخدم أنظمة فاشية. من وظائفي كمثقف –كما أراها- الكشف عن عورات شعبي وأماكن ضعفه وترهّله، والإشارة إلى مواضع الخطأ والكشف عنها من أجل تدعيمه وتدعيم وجوده. لست جنديًّا لدى أحد- لا عرفات ولا هنية ولا أبو مازن ولا الشعب الفلسطيني. عند الحاجة، أنا ضدّ الرأي الفلسطينيّ السائد، وضدّ الغوغائيّة إذا وقعت، وضدّ التصرفات اللا أخلاقية إذا حدثت، وضدّ الاصطفاف الأعمى وراء القبيلة. هذه هي وظيفة المثقف كما أراها وهذا واجبه تجاه شعبه.
نحن في داخل الخط الأخضر نخاطب إسرائيل والإسرائيليين من موقع المواطنة، وهذا يختلف عن مخاطبتها من موقع أهالي الضفة وغزة والقدس. كلّ طفل يعرف ذلك ولا حاجة لتبريره لأحد. من يريد أن يطلع على دقائق خطابنا ومسلكياتنا ووجودنا في البرلمان الإسرائيليّ وحضورنا في الحيّز العام العبريّ واليهوديّ، عليه أن يفعل أمرين اثنين كبداية: قراءة بعض التاريخ أولا، ورفض بطاقة الإقامة الإسرائيليّة المقدسيّة مثلا، إذا كان فعلا يرفض أيّ تعامل مع إسرائيل. أنا أكتب للإسرائيليّين بلغتهم وأحاول أن أؤثر على أفكارهم، وإلا فما جدوى الكتابة أصلاً؟ من يريد الفضفضة فليكتب ستاتوس في الفيسبوك ويشعل الأرجيلة. أنا أكتب كي أؤثر، ولذلك أتوجّه إليهم وأخاطبهم وأطرح تسويغات عقلانية ومشاعريّة، كأيّ كاتب مقالة. من يستصعب فهم ذلك عليه أن يترك الكتابة بنفسه.
تكتب قواسمي: "يفصّل حليحل في استجدائه فيعبر لنا – عفواً أقصد يعبر للعدو، عن خوفه من تدهور الخطاب العام الإسرائيلي، و"الذي ينبع من العنصرية التي يتم ترسيخها شعبياً ومؤسساتياً، ومن الشرعنة التي تمنحها جماهير عريضة في "إسرائيل" لحوادث الاعتداء على الفلسطينيين". يبدو إذن أن "إسرائيل" مكان جيد وجميل للعيش ولا اعتراض عليه، ولكنه أصيب مؤخراً بعوارض مرضية أدت إلى تدهور الخطاب العام فيه وزيادة تطرفه، وعليه فإن من واجب مثقف ما من "الأقلية الفلسطينية العربية في إسرائيل"، كما يحرصون على تسميتها، أن يُوّجه هذه الدولة العتيدة وينصحها في الخير لتحارب هذا المرض، حتى "لا نغرق معا".
ما هذا الاستخفاف بذكاء الناس؟ هل الحياة قطبان فقط: إما نعيم إسرائيل (أبيض) وإما فلتان عنصري سافر (أسود)؟ الحياة في إسرائيل تختلط بكلّ الأطياف والمواقف والحالات، وهي رماديّة غالبًا ووُسطى وعصيّة على التعريف في ساحق الحالات. أيّ تعامل تسطيحيّ معها ينمّ عن جهل قاتل. التسطيح في القراءة منبعه قراءة شبه استعمارية من الكاتبة لا يبدو أنها تفهم من النظرية البوست كولونيالية إلا شيطنة العدو من أجل إلغاء أيّ تفاصيل ودقائق على أرض الواقع.
وعمومًا، أنا توقفت عن الإعجاب بهذه النظريات البوست كولونيالية لأنّ "ضَرّاب الطبل" صار يستخدمها للتهرّب من نواقصنا وضعفنا ومواطن الخلل فينا، وكأننا قطيع غنم يمكن للمستعمر أن يفعل بنا ما نشاء، لا مسؤولية لدينا عن أنفسنا وتصرفاتنا. لقد بهتت نظرية "الاستشراق" كما وضعها إدوارد سعيد في سنوات السبعين، بوصف اللقاء بين المستعمِر والمستعمَر لقاءً صداميًّا؛ واليوم، ينزع الكثيرون (وأنا منهم) لتبنّي توجّه هومي بابا الذي يرى في هذا اللقاء لقاءً يُنتج بيئة وثقافة ثالثة هي خليط بين المستعمِر والمستعمَر.
خذوا الأبسورد القاتل مثلا، بأنّ الفلسطينيين هم من يبنون المستوطنات ومن ساعدوا في بناء جدار الفصل العنصريّ وأنّ أهل غزة والضفة يتقاتلون من أجل العمل لدى المستعمر. هل هم أنذال؟ بالطبع لا؛ إنها الحالة الجديدة المركّبة التي تنشأ بين التقاء المستعمِر (القويّ) والمستعمَر (الضعيف)، ونحن نعيش في خضمّها.
وتضيف الكاتبة: "تتكثف في هذه الفقرة من مقال حليحل وظيفة هذا "المثقف" الفلسطيني الجديد، وتضاف إلى وظيفة الاستجداء التي استقرأناها من الكلام أعلاه وظيفة تقديم النصح الاستراتيجي عن كيفية التعامل الأنسب مع الشّارع الفلسطينيّ، ليس من خبير أمني صهيوني، بل من "مثقف فلسطيني. مثقفونا لا يدعون المجتمع الصهيوني للبكاء والتعاطف مع "ضحايانا" فحسب، إنما كذلك يجتهدون في تقديم خدمة مجانية في كيفية التصرف الأنسب مع "جماعة مساكين" أمثالنا. إنه يقول لهم باختصار: يا جماعة الخير، تريدون كسب المعركة؟ تعالوا أخبركم كيف. فقط لو أنكم لا تقتحمون بيوت الناس، ولا تتعرضون لهم، بمعنى آخر، ركزوا ضرباتكم على "الارهابيين" وعلى شبكاتهم، واتركوا الشعب في حال سبيله. الشعب هو طرف و"الارهابين" طرف آخر لا يعبر عن الأول ولا يتقاطع معه.".
هذا تحليل مَرَضيّ نابع من نوايا أجهلها. هل تعتبرني الكاتبة خائنًا وعميلا وناصحًا استراتيجيّا للآلة الصهيونيّة؟ في كلّ مرة نعتقد أنّ زمن التخوين ولّى يطلع لنا "جيل جديد" أسوأ من الذي سبقه. جيل حاقد على أهله أولا قبل أن يحقد على الآخر. ما هذا الطعج التعسفيّ للنص ومحاولة ملاءمته لنزعة تفلسفية لا يمكن مقاومتها؟ هل حقا ترى الكاتبة هذا في النص؟ ما هي دوافع قراءة النص من منطلق تفلسفيّ سطحيّ، وإهمال النقاط الأساسية التي جاءت به وأهمها: لا تتوقعوا منا أيّ تضامن مع ضحاياكم وقتلاكم، فأنتم المحتلون وأنتم الطغاة وبيدكم تغيير هذا الواقع. لماذا تعتقد الكاتبة أنني أتعامل مع حماس والجهاد والشعبيّة بأنهم إرهابيّون؟ كل هذا التجنّي في فقرة واحدة!
أنا فلسطينيّ مهجّر من ضحايا النكبة وأعمل كل ما بوسعي كي أحافظ على بقائي في الجليل والمثلث والنقب. علاقتنا مع المؤسّسة الإسرائيلية تختلف عن بقية أبناء الشعب الفلسطينيّ ومن المفضل أن يحاول باقي أبناء هذا الشعب القيام بنفس المهمة التي نقوم بها، كُلٌ في موقعه، من دون أن يتفلسف علينا بتنظيرات باهتة وشاحبة وسطحيّة. ألا يكفي أنّ علينا أن نواجه الكيان الإسرائيليّ بتصعيده العنصريّ الآن، لننشغل في مزايدات أودّ حقا لو أعرف نواياها الحقيقية؟