تهاني نصار
منذ سنين قليلة، شاركت أختي في مشروع صغير مع احدى الجمعيات «الخيرية» في المخيم، كان دورها يقتصر على الترجمة الفورية للأجانب الوافدين إلى مخيماتنا الفلسطينية من أجل القيام بأبحاث اجتماعية معينة. ذات يوم لم تستطع حضور إحدى الجلسات، فطلبت مني تغطية مكانها. وكان لها ما أرادت
ألحّت أختي عليّ للحلول مكانها كمترجمة في تلك الندوة، ثم شرحت لتشجعني باختصار «الحكاية كلها»، وأقنعتني بقولها: «كلهم ساعتين زمان»، وفعلاً قبلت.
في الطريق، وأنا أمشي بين الزواريب، تضاربت مشاعري وأفكاري. كنت متأثرة جداً بأغنية «الجمعيات» لـ«كتيبة خمسة»، فرقة الراب الفلسطينية، و تذكرت جيداً كلماتها: «الجمعيات، هادول مصاري الوطن، الجمعيات، بحطوهم بشيلوهم، الجمعيات، عرصات هادا الزمن»، وسألت نفسي: كيف يمكنني العمل مع جمعيات مبنية على استغلال فقر الناس وضعفهم؟
جمعيات لعبتها الأساسية قائمة على «الشحدة»، حيث تأتيها تبرعات كثيرة، فتقوم بفعلين شنيعين: الأول، نهب المال الموهوب لمساعدة العائلات في المخيم، والثاني تصوير النساء والأطفال وهم يأخذون المعونات لترسلها إلى الجهات المتبرعة، فتزيد من صدقيتها أمامهم!، وجدت نفسي أمام البيت الذي وصفته لي أختي، لم يكن بإمكاني التراجع، فدخلت الجلسة التي كانت على سطح أحد البيوت المرتفعة في وسط المخيم. وجدت مجموعة من النساء يجلسن على مقاعد مصفوفة بشكل دائري، وشابتين أوروبيتين تنتظرانني. بدأت بترجمة الأسئلة للنساء.
أمسكت إحدى الشابات قلماً كان على الطاولة في الوسط، وهيأت نفسها لتدوين الملاحظات على دفترها الخاص. طبعاً، الأسئلة معتادة ومكررة إلى درجة الاهتراء: ماذا تعني لكنّ فلسطين؟ هل تفضلن العودة إليها؟ ما هي أحلامكم جميعاً في المخيم؟ أجابت سنا، الجالسة في المقعد الأول: «أنا من الخالصة، تقع قريتي شمالي شرقي صفد، وفلسطين تعني لي شجرة الزيتون التي كانت في وسط دار أبي. وحسب ما أخبرتني أمي، الصهاينة – الله يهدهم – اقتلعوها من جذورها بسبب حقدهم»، ثم تضيف سميرة، المرأة الجالسة بجانبي: «نعم، فلسطين تعني أن نعيش بكرامة في أرضنا ويتربى أولادنا فيها بحرية».
كنت أترجم كلامهن جميعاً، الواحدة تلو الأخرى، دون أن يؤثر فيّ كثيراً. إلى اللحظة التي قاطعتنا الحاجة زكية ذات الفستان الأخضر الزيتي، قائلة: «اسمعي يا ستي، أنت من عنا – يخليلك أهلك – مش غريبة يعني، بدي أحكيكي بالعربي عشان ما يفهمو عليّ هاظول الأجانب، ولو سمحتي ما تحكيلهم بالإنكليزي شو بدي أشكيلك إسا».
فاجأتني بكلامها، أومأت إليها مسرعةً بأن تتابع، فأكملت بغضب: «أنا حجة كبيرة شوي، ومش سهلة حركتي، وإجيت لهون عشان حكولي في دورة إنكليزي خاصة للختايرة، هاي رح يصيرلي أربع مرات باجي وبروح وما حدا علّمني إشي! إحكيلي عنجد، في تعليم إنكليزي ولا لأ؟ أنا بعرف اتظحكو علينا وجابونا عالفاضي، صح؟». مسحت جبينها بقطعة قماش باهتة اللون كانت تحملها في يدها، وتابعت كلامها: «أنا خسرت جوزي – الله يرحمه – بحرب المخيمات، كان رح يموت من الجوع وعظمه نفر لبرا وما لاقاش قدامه إشي غير يوكل الأعشاب اللي طالعة بالمقبرة فتسمم جسمه، ومات يا حسرتي عليه.
"وعانيت كتير كتير يا ستي، بنتي كمان خسرتها بقصف صهيوني، الله يهدّك يا إسرائيل ويحرقك زي ما حرقتي قلوبنا، وابني أخدو بحرب بيروت، غرق وراح!».
أغمضت عينيها لوهلة، ثم تابعت: "بس بعد ما الحرب خلصت وتروحنت الناس شوي، وصرنا نقدر نتحرك، عملوا وقتها دورة إنكليزي بالمخيم، ورحت بدي أتعلم قاموا بناتي منعوني، قالولي بدك اتظحكي الناس علينا يمّا، بلاش الدورة، بلا ما الناس تحكي علينا، وضغطوا علي كتير، فما قدرت أشارك. حدقت لثوانٍ في القلم الذي يتحرك في يد الشابة التي تكتب، ثم قالت: "بس يا ستي بعدها حسرة بقلبي لإسّا، ووين ما بقولولي تعون الجمعيات في دورة بالمخيم باجي أركض، وفش فايدة منهم"!.
أذكر أنني أحسست بحرقة قلبها على حلم بسيط لم تستطع تحقيقه، وسرّني كثيراً أن العقود الثلاثة لم تنجح في انتزاعه من روحها، لكني جاوبتها بصراحة: "يا ستي بديش أكذب عليكي، هاي الدورة عاملينها لحتى يسألوكم كم سؤال هون وهون وتجاوبوا عليهم بأشياء عن فلسطين وذكرياتكم هناك ومآسيكم اللي عشتوها هون بلبنان، وتجربتكم خلال الحروب، و أحلامكم بالمخيمات و و و... لا أكتر و لا أقل".
عندها قاطعتني إحدى الشابات سائلة عن انفعال الحاجة زكية، وسبب إطالتها في الكلام، فأجبت: "إنها منفعلة بالحديث عن ذكرياتها المؤلمة في المخيم". وبالرغم من طلب الحاجة بعدم ترجمة ما قالته لي، إلا أني لم أستطع تجاهل الأمر، فأضفت ما كان بنفس زكية: "من مطالبهم المشاركة بدورة لتعليم اللغة الإنكليزي بأقرب فرصة".
وأكملت الجلسة إلى أن انتهى الوقت وقام الجميع. كان نظري واهتمامي مصوّباً – بالتأكيد – على زكية، فوجدتها جالسة تراقب «الأجنبيتين» تجمعان أوراقهما وباقي الأغراض للمغادرة. وبعد أن نزل الجميع، قامت زكية من مقعدها ومشت لوحدها بخطوات بطيئة، إلى أن وصلت إلى جانب باب السطح، فمدت يدها وراءه وأمسكت بعكازها الخشبي، ثم اقتربت مني هامسة: "لمن حكت لي مسؤولة الجمعية «فلانة» إنو بدهم يعلمونا إنكليزي، خفت يا ستي يشوفوني عم بتعكز ويقولولي: انتِ ختيارة ما بتسوي للتعليم، فخبيتها هون وقعدت متل باقي النسوان».
ثم نزلت على الدرج بكل هدوء وابتعدت تتوكأ على عصاها تلك، تاركة خلفها دهشة مرسومة على وجهي.
من أشهر أغاني فرقة الراب الفلسطينية «كتيبة خمسة»، تعبّر أغنية «الجمعيات» عن رأي الشارع الفلسطيني في المخيمات، بعمل الجمعيات التي نشطت في السنوات العشرين الأخيرة بينهم، بشكل متوازٍ مع تراجع عمل وكالة الأونروا. وهو تراجع يشكك الكثيرون في أنه يخفي رغبة سياسية خبيثة بالتوطين. لذا، لا يثق الشارع الفلسطيني في أكثر هذه الجمعيات، فأبناؤه يعملون فيها موظفين، وهم يعلمون أكثر من غيرهم بأنها مجرد «سبوبة» لمن يعمل فيها.