عرفات شكري: لا يكاد يمر أسبوع في أوروبا إلا ونسمع عن شركة أو مؤسسة أو اتحاد نقابات أو شخصية بارزة أعلنت مقاطعتها لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية، حتى أن توماس فريدمان الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز سماها “الإنتفاضة الثالثة ضد إسرائيل واقتصادها”. فما هي حقيقة الأمر وإلى أي مدى يمكن أن يصل الإنزعاج الأوروبي الشعبي والرسمي من سياسة إسرائيل الاستيطانية؟
يتجلى الإنزعاج الأوروبي من سياسات إسرائيل بعدة أشكال منها التصريحات والمواقف السياسية الرسمية وكذلك حركات المقاطعة الشعبية والأنشطة الداعمة لفلسطين في دول أوروبا المختلفة.
فعلى المستوى الرسمي نذكر على سبيل المثال ما قامت به مؤخرا أربع دول أوروبية، هي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، من استدعاء لسفراء إسرائيل لديها للإحتجاج على سياسة بلادهم الاستيطانية في الضفة الغربية. ولا يعقل أن هذا الاستدعاء للسفراء في وقت واحد قد حدث صدفة، بل تم ترتيبه بين هذه الدول ليحدث ضغطا مؤثرا على إسرائيل. وما يؤكد ذلك هو ردة فعل إسرائيل الغاضبة على هذا الإجراء. حيث قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنفسه بمخاطبة الصحافة الغربية في القدس والرد على أوروبا باتهامها بالنفاق وعدم العدل في التعامل مع طرفي النزاع الفلسطيني والإسرائيلي. وبعد ذلك قامت الخارجية الإسرائيلية باستدعام سفراء الدول الأوروبية الأربعة المذكورة للرد على خطوتهم.
وقد سبق هذه الحادثة تصريحات متعددة من قبل المسؤولين الأوروبيين للتعبير عن الإنزعاج وعدم الرضى من سياسات إسرائيل الاستيطانية. حتى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الحليف الأوروبي الأقوى لإسرائيل، اعتبرت بناء المستوطنات وتوسيعها عملا يعيق عملية السلام.
كما قامت ممثلة الإتحاد الأوروبي كاثرين أشتون بإصدار توجيهات إلى وزراء خارجية الاتحاد بالعمل على تمييز بضائع المستوطنات من البضائع التي تنتج داخل إسرائيل بحيث تحرم بضائع المستوطنات من المعاملة التفضيلية التي تتمتع بها البضائع المنتجة داخل إسرائيل.
وفي هذا السياق يأتي أيضا ما صدر عن وزارة الخارجية البريطانية من توجيهات الى الشركات البريطانية توضح لهم فيها مخاطر العمل والاستثمار في المستوطنات الاسرائيلية ومخالفتها للقانون الدولي وإمكانية المساءلة القانونية لهذه الشركات في حال عملت في المستوطنات الإسرائيلية.
ومن أهم المحطات في هذا المضمار هو ما تعمل عليه المفوضية الأوروبية بخصوص محددات التعاملات او الاتفاقيات التي يمكن أن تعقد بين الاتحاد الأوروبي وبين دول أخرى ومن أهمها إسرائيل وهو ما يعرف ب “Horison 2020”. حيث كان من أهم هذه المحددات هو الالتزام بالقانون الدولي وفي حالة إسرائيل إعتبار الضفة الغربية أراض محتلة عام ١٩٦٧ وليست أراض إسرائيلية. وعليه فإن المستوطنات المقامة هناك تكون خارج أي اتفاقيات مع الاتحاد الاوروبي ولا تتمتع بأية تعاملات تجارية تفضيلية.
أما على الصعيد الشعبي فإن حركة المقاطعة الشعبية في أوروبا لبضائع ومنتجات المستوطنات تتوسع كل يوم لتشمل شركات وكنائس وصناديق استثمارية ونقابات مهنية وشخصيات مشهورة. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به صندوق التقاعد الهولندي PGGM الذي اعلن بداية هذا العام أنه سحب استثماراته من خمسة بنوك إسرائيلية بسبب دعمها وتمويلها للاستيطان في الأراضي المحتلة وهو ما يعد انتهاكا صارخا للقانون. ثم تبعه في ذلك صندوق التقاعد النرويجي وبعض البنوك الأوروبية الأخرى .
أضف إلى ذلك عشرات الإتحادات المهنية والطلابية والشخصيات الشهيرة مثل ستيفن هوكنغ العالم الفيزيائي البريطاني الشهير التي تؤيد وتدعم حركة المقاطعة لبضائع المستوطنات الإسرائيلية. صحيح أن حركة المقاطعة هذه لم تصل إلى ذروتها بعد ولكنها بدأت تؤلم إسرائيل بشكل واضح حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قام بتشكيل فريق من وزارة الشؤون الإستراتيجية لدراسة كيفية الرد على حركة المقاطعة الأوروبية والتقليل من أضرارها. أسباب الغضب الأوروبي على سياسات إسرائيل الإستيطانية
أسباب هذا الغضب متعددة ومختلفة على الصعيدين الرسمي والشعبي. فعلى الصعيد الشعبي أعتقد أن الأوروبيون قد ضاقوا ذرعا بممارسات اسرائيل الاحتلالية وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني وانتهاكها للقانون الدولي بل وتشددها واتجاهها نحو اليمين المتطرف الذي يقوم برفض وعرقلة الوصول إلى حل سلمي. وعلاوة على ذلك تقوم إسرائيل بقضم مزيد من الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات ضاربة بعرض الحائط كل المناشدات والقوانين الدولية التي تمنع ذلك.
ولا ننسى أن هذا الغضب الأوروبي الشعبي ليس وليد اللحظة بل هو نتيجة لعمل تراكمي كبير من قبل المئات من المؤسسات المساندة للشعب الفلسطيني في أنحاء أوروبا. ومما سهل الأمر نسبيا هو الفضاءات المفتوحة ووسائل التواصل الإجتماعي الحديثة التي جعلت العالم قرية صغيرة من حيث سرعة وصول المعلومة إلى أقاصي الدنيا. فما يحدث في فلسطين اليوم لا يحتاج تواجد وسائل الإعلام العالمية على الأرض لتغطية الأحداث بل يكفي أن يقوم شاب فلسطيني بتصوير جرائم المحتلين وبثها على الإنترنت لتصل إلى بقاع الأرض النائية.
أم على الصعيد الرسمي فإن الإنزعاج الأوروبي من سياسية إسرائيل الاستيطانية هو في جزء منه حرص على مصلحة إسرائيل و”عتبا عليها” أكثر منه عقابا وتعنيفا. وأوروبا بغضبها هذا كالأب الذي يقسو على ولده ويعنفه إذا أخطأ، وبطبيعة الحال فإن هذه القسوة يكون دافعها الحب والحرص على مصلحة الابن وليس هدفها الإنتقام أو الكراهية.
فسياسة أوروبا خلال العقدين أو الثلاثة الماضية قامت على حل الدولتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطين على حدود عام ٦٧ وقد استثمرت أوروبا خلال هذه الفترة جهودا دبلوماسية وسياسية ومالية كبيرة من أجل الوصول إلى حل للصراع مبني على أساس هذه الرؤية. وبعد قيام السلطة الفلسطينية فإن الاتحاد الاوروبي يساهم بما قيمته ٤٠٠ مليون يورو سنويا لدعم ميزانيتها.
وقد بنيت السياسة الأوروبية هذه على اعتبارات مبدئية وأخلاقية ومصلحية أيضا. فمن الناحية المبدئية والأخلاقية فإن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ينافي مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وحق تقرير المصير وحقوق الإنسان التي يتغنى بها الأوروبيون. وبالتالي فهذه المعايير لا تنسجم مع ممارسات الأحتلال الهمجية وقتل المدنيين واستباحة اراضيهم وممتلكاتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الآدمية. وكل هذا يحدث على أبواب أرووبا وتحت سمعها وبصرها مما يحرجها إذا سكتت وهي في نفس الوقت عاجزة عن فرض الحل على إسرائيل.
ومن الناحية الأخلاقية النظرية أيضا، رغم أن البعض لا يقرها صراحة، فإن أوروبا هي التي أوجدت إسرائيل وتسببت في النكبة الفلسطينية، وبالتالي فإن عليها مسؤولية إيجاد حل لهذه المأساة المستمرة.
وأما من الناحية المصلحية فإن الإتحاد الإوروبي يرى أن حل النزاع العربي الإسرائيلي سيوفر لإسرائيل عناصر القوة والإستقرار أكثر مما توفره آلتها العسكرية بل سيؤدى ذلك إلى ازدهار اقتصادها وانفتاحه على أسواق جديدة هي الأسواق العربية. وكذلك فإن التعاون بين أوروبا وإسرائيل سيكون أكبر مما هو عليه الآن في حال تم الوصول إلى حل لهذا الصراع. وهذا ما صرح به بيان صدر عن اجتماع وزراء خارجية الإتحاد الأوربي وكذلك مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد كاثرين أشتون قبل أيام قليلة.
وأمر آخر أعتقد أنه مهم في هذا السياق ويساعد كثيرا في تفسير الغضب الأوروبي المتنامي من سياسات إسرائيل الاستيطانية وهو عدم وجود بدائل حقيقية وعملية لحل الدولتين. بل إن المسؤولين الأوروبيين يرفضون حتى مجرد الإجابة على السؤال الذي يطرح عليهم دائما كلما تعرقلت مسيرة التفاوض، وهو ما البديل لحل الدولتين الذي يبدو أصبح مستحيل التحقق.
فالبدئيل إما أن يكون حل الدولة الواحدة بحيث تكون فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر دولة ديمقراطية واحدة لكل سكانها العرب واليهود. أو حل “نظام الفصل العنصري” كما كان معروفا في جنوب أفريقيا. وكلا الحلين يصعب جدا على الاتحاد الاوروبي أن يتبناهما من الناحية الأخلاقية والسياسية والعملية. فحل الدولة الواحدة يعني نهاية إسرائيل كما نعرفها اليوم. فعدد الفلسطينيين اليوم بين نهر الأردن والبحر المتوسط بدأ يساوي أو يزيد عن عدد اليهود في إسرائيل وبالتالي فإنه في حال قبل سيناريو حل الدولة الواحدة الديمقراطية التي يتساوى فيها الناس وينتخبون ممثليهم بحرية فإن حكام الدولة الجديدة سيكونون فلسطينيين! وهذا بطبيعة الحال ما لا يمكن قبوله إسرائيليا واوروبيا.
أما في حال ترسخت إسرائيل كدولة نظام عنصري، كنظام جنوب أفريقيا البائد، فإن أوروبا التي عملت على إسقاط النظام العنصري في جنوب أفريقيا لن تستطيع دعمه في إسرائيل وهي التي تتغنى اليوم بأمجاد مانديلا وبطولاته ونضالاته ضد النظام العنصري في بلاده.
وعليه فإن انزعاج الإتحاد الأوروبي وغضبه من سياسة إسرائيل الاستيطانيه بل وتصاعده في الفترة القادمة كما أتوقع يأتي لإرجاع إسرائيل إلى رشدها وتبيان أن حل الدولتين هو الحل الأمثل بالنسبة لإسرائيل والاتحاد الأوروبي وجميع الأطراف لأنه الأقل كلفة إذا ما قون بالحلول الأخرى.
ويمكننا أن نقول أيضا إن هذا الضغط من الاتحاد الأوروبي في هذا الوقت بالذات قد يأتي في سياق العمل على إنجاح مبادرة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري. وتبادل الأدوار معهود في السياسة الدولية وخاصة بين طرفي الأطلنطي. فأمريكا لأسباب مختلفة ومنها قوة اللوبي الصهيوني في أمريكا وكذلك بإعتبارها الوسيط “النزيه” بين الطرفين لا تستطيع ممارسة ضغط على إسرائيل يجبرها على تقديم تنازلات للطرف الفلسطيني. ولهذا فإنني لا أستبعد أن يكون التصعيد الأوروبي المتدرج تجاه إسرائيل هو للضغط عليها للقبول بمقترحات كيري والتي تصب في صالحها في نهاية المطاف.
إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه الضغط الأوروبي؟
من الواضح أن حركة المقاطعة الشعبية آخذة بالاتساع والتمدد على صعيد القارة الأوروبية وتكتسب مساحات جديدة كل يوم. بل وتصدر تصريحات دعم من شخصيات لم يكن يتوقع أحد أن تدخل في هذا المضمار. وعليه فإنه اذا استمرت إسرائيل في سياساتها الإستيطانية العدوانية ورفض المناشدات الدولية في التقدم بعملية السلام فإنه على الصعيد الشعبي الأوروبي سوف يستمر العمل ضد إسرائيل ويتصاعد ليشكل ضغطا على الحكومات الغربية كما كان الوضع مع حركة التضامن الأوروبية لإسقاط النظام العنصري في جنوب أفريقيا. وبطبيعة الحال لا أقول هنا أن الحكومات الغربية سوف تنتهج نفس النهج القوى الذي انتهجته ضد نظام الأبارتيد حتى سقط، بل المقصود هنا هو تشكيل حالة ضاغطة كفيلة بوقف السياسة الإستيطانية لإسرائيل في الأراضي المحتلة عام ٦٧
ولكن الخشية هو إجهاض هذه التحركات من قبل النظام الرسمي الفلسطيني كما حدث عام ١٩٩٣ إثر توقيع اتفاقية أوسلو. حيث أصيبت حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني بانتكاسة خاصة مع ما رافق الاتفاقية من تصريحات ودعاية أوحت للجميع بأن القضية الفلسطينية قد تم حلها وأن المسألة ما هي إلا مسألة تفاوض على أمور جزئية هنا وهناك ليتفاجأ الجميع بعدها أن اتفاقية أوسلو أدخلت القضية الفلسطينية في نفق مظلم لم يخرج منه الشعب الفلسطيني بعد.
وفي حالتنا هذه فإنه إذا حدث توقيع اتفاقية جديدة أو اتفاقية إطار كما يشاع هذه الأيام بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي فإن حركة التضامن الأوروبية سوف تصاب بإنتكاسة جديدة وستحتاج إلى سنوات حتى تسترد عافيتها وزخمها من جديد.
وبقى أن نقول إن أوروبا رغم التضامن المتزايد على الصعيد الرسمي والشعبي تبقى محكومة بعوامل مختلفة تبقى سقف التوقعات منخفضا وذلك لأسباب كثيرة، منها تاريخ أوروبا النازي وعقدة الذنب التي توجه سياسات كثير من الدول الأوروبية تجاه الشرق الأوسط إلى يومنا هذا. وكذلك قوة اللوبي الصهيوني في دوائر صنع القرار في أوروبا وضعف الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. فالاتحاد الأوروبي يضم اليوم 28 دولة أوروبية وكل دولة لها سياستها الخارجية الخاصة بها ومن الصعوبة بمكان أن تجمع كل هذه الدول على سياسة خارجية واحدة لا سيما بخصوص اتخاذ سياسات حادة ضد إسرائيل. وإذا أضفنا إلى ذلك غياب أي ضغط عربي حقيقي على أوروبا لتغيير سياساتها تجاه إسرائيل فإن سقف الضغوط الأوروبية على إسرائيل سيبقى محدودا ولن يرقى إلى طموحات الشعب الفلسطيني.
ولكن إذا تضافرت الجهود وتناغمت القيادة الفلسطينية مع التوجهات الشعبية المتصاعدة في أوروبا وقبل ذلك قامت بإنهاء الإنقسام وتوحدت القوى الفلسطينية واتفقت على برنامج عملي لمواجهة إسرائيل فإن النتيجة الطبيعية هي تحقيق الكثير من الحقوق الفلسطيني التي هي في مهب الريح هذه الأيام.