بقلم الأسير المحرر سعد معين حافظ
الليل طويل جداً حين يكون داخل الزنزانة أسير مريض، أحرث العتمة بعيني جيئة وذهاباً لا لجدوى ما في ذلك فقط لئلا يلمح الدموع الواقفة على أعتاب الجفون.
لا أشفق عليه فما هو بمدعاة للشفقه أو للأسف، أسمع أناته المكمومة عن من يسكنون هذا الخدق، هذا الجرح النازف في الأرض، هذي الزنزانة الموغلة في الظلام وأعرف أنه مثلي يكابر، ويعض على وجعه لئلا نصحو من وهم نومناً، يجهد يتعب يطوي جسده على وجعه لكن موجات الألم تجتاحه وتضربه بعنف، لا أعرف مثله سبب وجعه سسبب مرضه أو ما هو.
أتذوق ألماً مجهول الأبوين معه، فكيف لأسير فلسطيني أن يعرف مرضه أو سببه في السجن؟ قد يكون السجان الذي يرتدي زي الطبيب اتباعاً للبرتكولات قد حقنه غلاً بمرض ما، لا لشيئ سوى للتجربه، تجربه قدراته المعدومه أصلاً أو لتجربه عقار شركه دواء دفعت له حفنه من الدولارات ليجربه، نمسي في الأسر حقل تجارب للمجرمين كما كنا في الخارج حقل تجارب للذخيرة وآخر التكنلوجيا الأمريكية الموجهة استعداداً للحرب (النظيفة).
قد يكون البرد هو من أثقل عليه رفقته حتى استقر منه في العظام، وقديكون القهر قداستأثر في صدره أو غمر السياج الشائك حنجرته، وقد تكون رصاصة استقرت في لحمه منذ سنين لاتزال ترفض التقاعد من سبب وجودها.
مرهق أنا بسكوتي، مرهق أنا بانتظاري له أن يصرخ، أن يدك أسوار صمته أن يشتكي.
انضو عني سكوني وأهزه قائلاً: هل أنت بخير هل أطلب الطبيب؟
فيجيب بعينين مشقوقتين على وجع ارتدى وجهه، وماالذي سيفعله لي الطبيب؟
أجيبه بما نعرفه جميعاً، لاشيئ لكن لابد أن يراك، عله يعطيك ما تسكت به وجعك.
يرفض ويجتمع من ادعى الهدوء مثلي في العتمة قبل قليل لنقنعه، فيرفض كما نرفض كلنا حين نغدو في مقامه، لكننا نتجاهل رفضه وننادي السجان ونناديه فيجيب من مقعده في غرفة المراقبة بفظاظة كعادته رافضاً إنزال قدميه من على الطاولة قبل أن يعرف ماذا نريد.
يتملكنا الغضب الذي يذوي كالنار في الزنازين القابعة في السجن ويرتفع سور عجزنا أكثر فأكثر، ويجيئ متثائبا متثاقلاً متذمراً ويقف بشباك الزنزانة ضجراً ويسأل من المريض وما اسمه ورقمه وما به ويرفض استدعاء الطبيب حتى نوقف المريض ونجلبه للباب ليراه، فنمسك ألسنتنا عن شتمه والبصق في وجهه، فليس هذا وقت العراك.
وبعد جهد جهيد يتنازل ويستدعي الطبيب الذي لا يأتي إلاّ بعد نصف ساعة وأكثر ريثما يستيقظ ويشرب قهوته ويكمل زينته ليجيئ الأخير نصف نائم، غاضب وناقم على من وجعه أيقظه، ويعيد طلب اسم الأسير ورقمه ويصر على أن نجلبه مرة أخرى للباب رغم وهنه ووجعه ليفحصه باذنيه من خلف الباب فهو لا يأبه به ولا بمرضه يسأله ما بك هل تتدلل ويمد يده في جيبه مخرجا حبة (أكمول) ويوصيه بشرب الماء ويدير ظهره متجاهلاً تهجننا لسلوكه ومستهزءاً بصراخنا واحتجاجاتنا وقبل أن يرحل دون أن يقدم له شيئا يسجل اسم المريض لدور العيادة الطويل ويصفعنا بالحقيقة، ماذا افعل له هل أنا الطبيب؟ فلينتظر قدوم الطبيب!.
يزحف العجز في دمنا ويأكلنا أحياء صامتين ويطرق صدورنا الوهن والضعف مع كل أنة يطلقها قهراً اخونا المريض، يحزم النوم امتعته راحلاً في تلك الليلة عن زنزانتنا، ونتحلق وجع أخانا ورفيقنا، نقتسم عجزنا ووجعه وقلة حيلتنا ونهلك نمسك يده، نجترع طب العجائز في بلد شاخ على الصبر، نمسح جبينه الملتهب بالماء بالدمع ونغرق نغرق في عجزنا نغرق، نشعر كم نحن محاصرون وكم نحن عاجزون، ندفن رؤوسنا بأكفنا من شدة الخجل من شدة الألم، لنصحو وندق جدار الخزان ونضرب بأيدينا الأبواب والقضبان فلا كنا إن هذا السجان وأخانا مريض استقر ونام.. يتبع.