قرأت في أحد الكتب يا أبي أن من يُضحي بروحه ويغدو فارساً يصعد إلى السماء هو مجرّد شهاب يضيء لحظات وينطفئ، فنحن العرب نعشق وجود أمثالك فقط لنستذكرهم كما نذكر أمجادنا وفروسيتنا في الماضي، هي عقدة المجتمع العربي الحالي.. هل هذا صحيح؟ أنك ضحيّت بروحك من أجل لا شيء؟ من أجل شعب لا يُجيدُ سوى الوقوفَ على الأطلال ولا يحرّك ساكناً؟
في الحقيقة يا أبي كلّ هذا لا يعنيني أبداً، فأنا لا أحب أن أفلسف التضحيات .. أعرف أنكَ كنت السبب في رفعِ رأسي عالياً طيلة حياتي إلى أن أموت وهذا يكفيني، صدّقني لا يريد الإبن من أبيه أكثر من ذلك، لكنّه وعد الله لمن عمل من أجل الله والوطن، فأنا لست إبنكَ وحدك، الكثير من أصدقائي يشاركوني اليُتم يوم رحيلك، يوم رحلتَ أنت شعرتُ أنني توحدّت مع هذا الوطن في اليُتم، شعرتُ بأنني أنتمي إليه أكثر، لكنّ ظلّك يا أبي واسع وواسع، أنت ممّن في غيابهم يكونون أكثر حضوراً ممن هم حولنا من الأحياء، لم أشعر ابداً بأني فقدتّك .. فأنت في كلّ مكان، غير أني في بعض اللحظات أفتقدك وأشتاق إليك، كيوم تخرّجي من الثانوية العامة، كأن أفتقدك عند وقوفي على منصّة التخرج في الجامعة بعد عدّة أشهر ولن أستطيع أن أحمل المايكروفون لأقول: (أهدي تخرجي هذا إلى أبي الحبيب الجالسٍ هناك)، أو عندما أحدّثك عن طموحي وأحلامي وخيباتي، أو يوم جلوسك مع الجاهةِ يوم خطبتي، أو يوم أراكَ تحملَ أوّل أولادي الذي سيحمل اسمك بالتأكيد.. نعم يا أبي إشتقت لك وسأظلّ أشتاق! .. وكيف سنوقف حزن المآذنِ حين تنادي صباحاً عليك .. ولا تستجيب.
لم أكن أريد أن أكتب شيئاً في هذا اليوم، فصدقاً أيّ كلام سيخرج هو تافه ليس أكثر وأنا أفضّل الصمت في مثل هذه المواقف، لكنّهم أصروا عليّ أن أكتب حتى "نُؤَنسن" أبطالنا، أي أن أكتب عن إنسانيتك خارج الصورة النمطية تلك التي حفظها الكثيرون.. حسناً سأكتب لكن لن أطيل أبداً، أنا أزور رافات بصورة مستمرّة ودورية، لا زالت أجمل اللحظات حين يكلّمني جدّي وجدتي عنك، وسأكرر هذا الكلام دائماً ..في كلّ جلسة معهم أتعرفُ عليكَ أكثر، أتمنى أن يعيش جدّي وجدتي للأبد حتى يستمروا بالحديث عنك أكثر.
في الشهر الماضي تعرّفت على أنك في بدايات العشرين من عمرك كنتَ لا تقبل أن يقلل من كرامتك كائنا من كان حتى لو حملك على الدخول في عراكٍ غير عادل، جدّتي لم يرزقها الله البنات، فكنت تساعدها في الطبخ وقد إعترفت لي بأن طبخك أفضل من طبخها! على كلّ حال طلبت من أمي أن تعلّمني الطبخ في هذه العطلة.. لم تكن الأب المثالي فقط، بل كنت الأخ والابن المثالي أيضاً! أنت هكذا تزيد الأمر صعوبةً عليّ، أيضاً عرفتُ أنك لم تستطع العيش في الأردن لأكثر من أسبوع من أجل إكمال دراستك وأظنّ أني ورثتُ هذا الأمر عنك تماماً فأنا أيضاً أشعر أنني لا يمكنني أبداً العيش خارج هذا الوطن..، أتذكر يوم شرع جدّي بحفر الأساسات لمنزلك الكبير، لكنّك إعترضت وقمت بردم الأساسات وقلت له لا أريد إلا منزلاً صغيراً .. وجدي إستغلّ بعدها ذهابك إلى الجامعة وعندما رجعت بعد شهر كنت قد وجدت المنزل مرفوعاً على الأعمدة ..، أنت تركت لي حِملاً ثقيلاً وإنتماءً سياسياً جاهزاً ومساحة قليلة جداً لأتحرّك بها، لكن أشعر بنفس الأمر بالنسبة لك! أجل، أجل! أعرف بعض أفكارك السياسية التي لا يمكن أن أتفق معك بها أكثر! لكنّك أيضاً بعدما رحلت تقلّصت مساحتك وأصبحت نجماً في سماء فلسطين يُجمع عليه كلّ أبناء الشعب فعليك الإحتمال، ساعدني لأساعدك على هذا الحمل، أتدري حينما أتذكر لحظاتي القليلة معك .. لا يُخطر ببالي حين أمسك سلاحك وأقوم بتنظيفه لك بسعادة بالغة، ولا حين رأيتك تدخل المنزل وبيدك حقيبة ممتلئة بالرصاص، ولا حين تسمح لي بإمساك القنبلة من الأسفل .. بل أذكر حين إنزعجت مني لإني لم أحب أكل السمك.. والآن بعد مرور 18 سنة، في كلّ مرة تقوم أمي بطبخ السمك .. أبتسم.
أتذكّر أني قرأت عن عبقريتك حين نصبت كميناً لضابط في وحدة المتفجّرات فقد كانت قنبلة بداخل قنبلة وهمية، أعرف أيضاً أنك كنت تحبّ إطلاق النار أكثر من عمليّات التفجير وأنك كنت تعود بعد عمليات إطلاق النار سعيداً ومبتهجاً وخصوصاً إذا أسفرت مغامرتك عن قتلى صهاينة، وعرفت أنك بدأت مسيرتك بالكتابة على الجدران وتخييط الأعلام لحركتك حماس، ولا تزال جدران القرية تحتفظ بكلماتك وتحتضنها رغم المطر والثلج .. أحببت حين أخبرت صديقاً لك بأن يذهب معك في مهمّة هو لا يعرف عنها شيئاً، فقمت بالتسلسل إلى معكسر تدريب وهو فارغ وقمت بزراعة قنبلة في مكان التدريب على الرماية لتسمع في اليوم التالي نبأ إنفجار لغم بأحد قناصة الإحتلال حين انبطح على الأرض ليطلق الرصاص فقام لغمك بمباغتته بمهارة! .. كلّ هذه العبقرية لم تجذبني كما جذبتني قصّتك بعدما استشهد صديقك بشار العامودي ومعه علي العاصي .. حينما ذهبت بين الجبال لمدّة ثلاثة أيام تمشي بدون توقّف وبدون طعام وكنت منهكاً وحذاؤك قد تمزّق من شدّة حزنك عليهم ومن قساوة الطريق التي تسير عليها .. كنت تعرف صديقاً لك في القرية القريبة وذهبت تقرع بابه أملاً بأن يقدّم لك شيئاً من الطعام والراحة .. وحينما فتح لك الباب نادته زوجته من الداخل لتقول له بألا تسمح لعياش بالدخول إلى المنزل، أنت شعرت بهذا وعندما رجع ليعتذر منك لم يجدك على الباب! يااه كيف رحلت صامتاً تحمل قلبك الحزين ودموعك الحارقة؟!
قرأت كتابات بعض الأصدقاء عنك قبل أيام، أعجبني قول أحدهم أن هنالك دائماً فرصة ظهور عيّاش جديد، أنا إذا أردتّ تعريف يحيى عياش .. سأعرّفه بالتالي : "هو إنسان بينما كان الآخرين يتقبّلون الواقع كان يخطط لصنع واقعٍ جديد .."، هنالك عيّاش آخر إسمه حسن سلامة، بينما كان الكلّ يبكي على رحيل عيّاش، كان يحتضنني ويفكّر كيف سينتقم لك، وأعرف أنه إستخدم خطّتك التي كنت تنوي الذهاب بها إلى الضفة لكن إرادة الله كانت أقرب إليك بأسبوع من الرجوع إلى ضفتك الحبيبة، لقد أثبتّ لنا كم من الممكن لإنسان واحد بعقيدة وعقل أن يصنع فارقاً ونقلة نوعيّة في تاريخ نضال الشعب .. ، صحيح نسيت أن أخبرك، قبل شهر إستعرت من مكتبتك التي لم تزل كما هي في منزل العائلة كتاباً لسيّد قطب، تمنيت أن تكون هنا لأناقش الكتاب معك، ليتك تركت بعضاً من أفكارك على حواشي الكلام لكي أجدكَ فيها .. أُحبّك، لا تنزعج منّي ..
وفي الختام، إن أرادوا أن يعرفوا أكثير عن يحيى الإنسان فهنالك جدّي وجدّتي ليرسموا لوحةً لأبهى إنسان، وإن أرادوا يحيى العسكري الفذّ فهنالك الكثير من إخوانه في الجهاد شاركوه أمره، حلوه ومرّه وسيقولون أن يحيى صنع المعجزات وهو فعلاً صنعها ليرسم معالم الطريق لمن بعده، أما أنا فسأرجع إلى الوراء قليلاً وأنضمّ إلى سائر الجموع التي تعشقك وأنظر إليك من بعيدِ معهم، ننظر إلى بطلٍ من أندر ما أنجبت فلسطين حتى يومنا هذا!
*براء عياش هو ابن الشهيد المهندس يحيى عياش.