شبكة قدس الإخبارية

على موعد مع الشمس...

هيئة التحرير

بقلم: الأسير سعد معين حافظ

أيامٌ محدودة هي ما يفصلني الآن عن معانقة الشمس بلا قضبان ,, عن ملء رئتي بهواءٍ خالي من طعم الحديد ولست أعرف كيف أكتب في هذا الليل الذي احتله البرد القارص ولم يعد يشغل بالي هنا في السجن سوى تلك المرأة المسكينة الجميلة التي تتبعت طوال تلك السنوات الطويلة على قارعة السجون نزفي.

ليس في مخيلتي سوى صورتها و هيَ تجلس في تلك الغرف الضيقة التي اكتظت بأبنائها الأربعة وهي ترتب الملابس التي اشترتها لي كي أكسو بها نحول تسع سنوات من القهر من الألم داخل الأسر ,, وقد علمتُ مؤخراً انها باتت تكثر الجلوس فيها بحجة ترتيبها, هي أُمي التي استهلكت أحلى سنين عمرها وهي تبكي بصمت تحت جلدها على ولد ابتلعته الظلمة وارهقته سنين الإنتظار, هي امي التي لطالما دارت عني ما كان جلياً في عينيها من خلف زجاج قاعة الزيارات في السجن من التعب و السأم.

في كل مرةٍ أتتني فيها لهذه السجون التي باتت تعرف كيف تفرق بينها من السيء للأسوأ .. هي التي لطالما جاهدت لتأتيني مهما كانت مريضة او متعبة مها كانت الأجواء باردة او حارة, هي التي لطالما حبست عني غضبها وحنقها على الدنيا التي انتزعت منها ابنها وظلت بعفوية وطيبة قلب معتادةٍ تطالبني بالتزام الهدوء علهم يفرجون عني قبل انتهاء حكمي في إحدى الإفراجات الكثيرة التي قفزت عني ... هي التي تحيك خيوط شمس الأيام المتبقية لي في هذا السجن وتعمدها بدموع الشوق والألم الذي يرتفع في عروقها كمدٍ عالٍ جارف على عمري المحروق حينما ترى بحسرة كل أقراني وأصدقائي وقد تخرجوا من جامعاتهم وتزوجوا ورزقوا بأبناء كانوا أحد أحلامي الكثيرة المعلقة على رف الانتظار المغبر الطويل.

أمي الحنونة التي اعييتُها بتذمري ونوبات غضبي ,, هي التي لطالما نقلت لي العالم عبر نافذةٍ صغيرة متسخة الزجاج وكانت لا تزال عيناي التي ارى بها الدنيا رغم أسوار السجن العالية, هي التي لطال ما ساندت والدي ,, الذي لا أعرف إن كان بمقدوري في يوم من الأيام ان أرد له جزءاً بسيطاً من عطفه ومحبته لي ولاخوتي وأمي, والدي الذي رأيت كيف شحب وجهه حين أنزل بي القاضي العسكري الإسرائيلي حكمه في ذلك اليوم.

أبي الذي تعرفت إليه من جديد حين انتزعت منه وتعلمت كيف أحبه وأقدسه وهو ظل واقفاً كالطود طوال هذي السنين رافعاً رأسه رغم قلبه المكسور على فراق ولده, والدي الذي تعلمت كيف أقول له اشتقت إليك لأول مرة في حياتي هنا في السجن بعد أن قالها لي هو, والدي الذي تفهمت قسوته علينا في بعض الأحيان وغضبه حين كان يعبر فيهما عن حبه لنا وخوفه علينا ...

لست ادري حين تنزع الأصفاد عن معصمي وكاحلي كيف سأخطو لأول مرة دون قيود بعد تسع سنوات نخر فيها القيد ببرده وأنيابه عظامي ,, لكنني ميقن بأنهما .. والدي ووالدتي سيأخذان بيدي كمان أخذاها حين كنتُ طفلاً صغيراً و سيشدان وثاق أضلعي وسينصبانِ من جديد قامتي في هذي الدنيا ...

والآن وفي هذا الليل المطبق على المكان أمشي حافياً داخل زنزانتي المعتمة متلمساً هذه الأرض التي لست أعرف إن كنت في يوم من الأيام سأخطو فوقها في حياتي بدون قيد ودون أن أتلفت حولي خوفاً من محتلٍ يطارد أملي بالعودة لأرضي التي قاتلت والآلاف من أبناء شعبي لأجلها,, في هذا الليل أُراقب وجوه رفاقي النائمين ويكاد قلبي ينخلع من مكانه لأني بعد ايام قليلة سأفارقهم بعد كل هذه السنين التي تشاركنا فيها العذابات والألم والمعاناة,, تشاركنا فيها الهم والسأم والمرض والحزن وتراصصنا دفعاً للبرد و الريح .. تقاسمنا فيها رغيف الخبر مع العصافير والحمائم التي لا تنفك تزور شباك الزنزانة كل يوم ...

تقاسمنا فيها رذاذ الفرح والامل كسرة خبز نوزعها على بعضٍ من يدٍ ليد .. سنوات تشاركنا فيها الجوع .. واختلطت دمائنا في معارك الإرادة ضد المحتل وسجانيه اليوم يتنازعني قلبي بينهم وهم اخوتي ورفاقي وبين أملي خارج السجن، ويعتصرني الألم على فراقهم لأني أعرف أن هناك آلاف الأمهات و الآباء .. آلاف الزوجات والآبناء والبنات ينتظرون احبتهم المغيبين في غياهب هذا الجب المعدني في عتم صحاري الإسمنت القاحلة, اليوم بعد إضرابين كاد أحدهم أن يودي بحياتي ونوبة قلبية لم تصبني تماماً كما اخبرني متحسراً طبيبُ السجن لأني نجوت منها..

أقول لكم بكل ثقةٍ "إن هذا الشعب يمتلك إرادة تزيح الجبال من مكانها ,, وإن حريته وعودته حتمية قادمة رغم كل من تخلف عن ركبه ومن تخاذل ومن ضعف، فشعبي علمني أن الإرادة تجعل من الجسد الهزيل أقوى من الفولاذ .. الحرية لشعبنا ولأسراه ,,, و العودة حقُ لا يحقق إلا بالقوة ,,, وإننا حتماً لعائدون.