تقرير: لارا يحيى/ تصوير: مصعب شاور
إن سعادتنا بحرية رزق صلاح وإخوانه كانت موجعه حين أدركنا بأنه لن يستطيع إعطائنا نحن الجيل الجديد سوى معلومات قليلة عن عمليته، القيود الأمنية التي وضعها الاحتلال عليهم كانت معقدة ومفجعة فعدا عن أنه أجبرهم على مراجعة مركز التحقيق القريب من مدينتهم مطلع كل شهر فهو أيضاً اعتبر حديثهم عن عملياتهم مخلٌ بالأمن الورقي الخاص به..، عليك أن تعي أيها القارئ أننا ذهبنا نحمل أمل بمعرفة تفاصيل البطولة واضطررنا للعودة دونها..
بعد واحد وعشرون عاماً، من الفراق القسري، عاد رزق صلاح ذو الخمسين عاماً لأبناءه رمزي وأحمد وزوجته جهاد ، ناجياً من حكم بالمؤبد، إلى منزله الذي بُني وهو في السجن، في منطقة أمر ركبة، في مدينة الخضر، جنوب بيت لحم المحتلة ، رزق الذي خرج من القبر ونفض عن نفسه غبار الاسر قال لشبكة قُدس :
"المقابر وجدت للأموات، وخروجنا اليوم من قبور الاحتلال لهي ولاده جديدة لنا"
وأضاف أنه حين اعتقل كان في الثلاثين من عمره وعمره اليوم ٣٠ عاماً وثلاثون يوماً، " لقد استرددنا الحياة من القبر وبدأت حياتي الحقيقية اليوم، بعد أن انتزعت حريتي، ورأيت الاحتضان الدافئ من أبناء الشعب الفلسطيني، والاستقبال الرسمي القوي,, لقد كانت ساعات بعد منتصف الليل ورغم ذلك اصطف شعبنا بالشارع، وهذا الشيء حقيقة أثلج صدورنا وأشقائي من الأسرى المحررين".
[caption id="attachment_34100" align="aligncenter" width="576"] الأسير صلاح قضى في الأسر 23 عاما[/caption]الحرية المتأخرة..
تقر القوانين الدولية بأن على أي دولتين وقعتا اتفاقية لإنهاء نزاعهما فإن على كليهما الإفراج عن أي أسرى كمقدمة لحسن النوايا، إلا أن دولة العدو "إسرائيل" كعادتها فوق كل القوانين المعمول بها.. وتجاوزاً ظل أولائك الأسرى معزولون في مقابر الاحتلال، ويرزحون تحت أحكان المؤبد .. أقر رزق بأنه وإخوانه تعرضوا للظلم والنسيان لعشرين عاماً ويزيد، روى عن ذكريات الأسر في عام توقيع "أسلو" قال بأن الاتفاق أهمل الأسرى وأوجع قلوبهم لأنه خلف "خيرة أبناء الثورة الفلسطينية" أسرى، ولأن مسودة الإتفاق لم تضع لهم مجالاً في سطورها، تلقوها وهم في سجن جنيد بمدينة نابلس المحتلة، وحاول الأسرى جاهدين أن يجعلوا القيادة "تلتفت لمسؤولياتها، وتتخذ الإجراءات اللازمة" على حد تعبيرة لكفالة الإفراج عن ١٧ ألف أسير في سجون الاحتلال منهم ٥٥٠٠ أسير في سجن النقب الصحراوي وحده لكن القيادة لم تلتفت لنا وبقي الحال كما هو.
القيادة السياسية وقضية الأسرى…
رغم كل الاهمال الذي تعرض له الأسرى في السنوات العشرين العجاف، إلا أن صلاح شهد للقيادة، واعتبر أن إلتفاتتها المتأخرة واشتراطها ببدء الجولة الحالية من المفاوضات بالإفراج عن أسرى ما قبل أسلو، وحصولها على ما أرادت لهو شهادة أنها تضع الأسرى رأس أولوياتها حاليا رغم عدم اهتمامها الجدي في جولات المفاوضات السابقة.
وأضاف صلاح أن الحكومة الاحتلال أوجدت مصطلح "الأيادي الملطخة بالدماء" لمنع الافراج عمن كان مسؤولاً عن قتل ضباط أو مواطنين اسرائيليين مما دفع الأسرى لممارسة الضغط الفعلي على القيادة حتى لا يستثنى أي أسير من الأسرى القدامى من هذه الافراجات.
الأحلام التي كادت أن تموت
تخيل صلاح أن الشدة لن تطول واعتقد أن آماله وطموحه بالحرية القريبة لن تكون بعيدة، وأن حريته القادمة ستؤهله للإمساك بزمام منصب كحقٍ له بعد الحرية، يؤمن له ولأبناءه العيشة الهنية والرغيدة بعد معاناة طويلة جراء الفراق والحرمان، لكن الحرية تأخرت وبدأ أمله بالافول، واصبح جل ما يتمنى أمرٍ واحد فقط، وهو الحرية، الحرية وحدها وأن لا يضطر أن يدخل منزله بشكل "أفقي" على حد تعبيرة أي ألا يكون محملاً على نعش، وينال حريته قبل ذلك ليعيش مع أبناءه وزوجته ما تبقى من الحياة …، وهو ما دفعه ليقول لنا بعيون تدعم : "تخيل أن يكون طموحك ألا تموت.. وألا تموت بالأسر، حينما نتحدث عن الأسرى القدامى فنحن نتحدث عمن أعمارهم بين ٤٥ في أدناها و٦٠ على الأقل في أعلاها".
لقد تمنى صلاح ألا يناله الخذلان من القيادة والفصائل، معتبراً أن إرتفاع عدد الشهداء وسط أبناء الحركة الأسيرة هو أمر مثير للإحباط بخصوص نهاية من يفكر بالنضال من أجل هذه الأرض، كونها تعطي انطباعاً أن هذه النهاية الحتمية كل من يعمل لتحرير فلسطين.
ظروف الاعتقال والتحقيق
إن صورً ومشاهد الاعتقال طيلة عشرين عاماً لا يمكن ان تحتويها مجلدات ، فهي صعبة جداً وتحوي بداخلها الكثير من القهر والحرمان، وقهرها متجدد في كل ساعة من ساعات الاعتقال، إلا أن الأسير الفلسطيني يتمتع بالقوة و الصبر و مساندة الشعب له في اثناء خوضه الاضرابات و تعرضه للقمع خاصة مواجهة الاقتحامات للغرف والاقسام بلا حول ولا قوة إضافة إلى إيماننا بالله والوطن، بهذه الكلمات عبر صلاح عما بداخله، وأضاف "إيماننا الحتمي بقرب الحرية والتحرير، يعزيه إيماننا بأننا أصحاب قضية، وكل هذه الأعوام (٤٧ عاماً على النكسة و٦٥ عاماً على النكبة) تدلنا على قناعة واحدة بأن جولة الباطل ساعة والاحتلال باطل ، وجولة الحق لقيام الساعة ومطلب الحرية حق"..
[caption id="attachment_34101" align="aligncenter" width="576"] المحرر صلاح يجيد 3 لغات غير اللغة العربية (العبرية والإنجليزية والفرنسي) جميعها تعلمها في الأسر[/caption]قلاع التعليم
أمضى صلاح ٢١ عاماً، فيما أسماها جامعات الأسر، واصفاً نفسه بالقارئ النهم، المحب للإطلاع، معتبراً أن الأسر سلاح ذو حدين وإن كان يسرق أعمار الأسرى إلا أنه يمنحهم الوقت الكافي كي يستعينوا على منح عقلهم الغذاء الكافي من المعلومات والقراءة، حتى لا يصدأ على حد تعبيره، حتى أنه قال " لقد كنت أشعر خلال الواحد والعشرين عاماً بأني مدين بالوقت، كان نومي قليل، وأحاول انجاز عملين معاً وكنت دائم المتابعة للبرامج السياسية ودائم تسجيل المصطلحات الواردة فيها والسؤال عنها وحفظها".
نتيجة للقراءة والتعلم داخل الأسر بات صلاح اليوم يجيد اللغتين العبرية والانجليزية إجادة تامة قراءة وكتابة ومحادثة، بالإضافة إلى المام جيد باللغة الفرنسية.
الاعتقال
في ٩ / ١٢ / ١٩٩٠ نفذ الفتحاوي رزق صلاح عملية بعبوة ناسفة في مقر الحاكم العسكري في بيت لحم "البصة" حيث قتل جندي واصيب آخران ، وفي ٧ / ٦ / ١٩٩٣ بعمر الثلاثين، وفي تمام الساعة الثانية عشر وخمس دقائق كان صلاح يقرأ بهدوء رواية زلزال بيروت لمسؤوله في التنظيم الخارجي الملقب أبو الطيب، حين وصل إلى الصفحة ٦٥ حيث سمع أصوات الجيبات وشاحنة عسكرية في الشارع، التي توقفت جميعاً أمام المنزل، ألقى صلاح سريعاً بالكتاب أسفل مقعده، وترجل لينزل إلى ساحة المنزل، متوقعاً أنهم أتوا لإجراء تحقيق ميداني أو تفتيش بالمنطقة ..
كبل جنود الاحتلال أيدي شقيقة الأكبر حسين، وعصبوا عيناه، وقادوه إلى جيب الاعتقال، فحدثت على اثرها مشادة وعراك بالأيدي بين زوجة شقيقة ووالديه، ووقف صلاح بينهما " حجيّز " بالعامية أي أنه وقف بينهما ليفرق هذه المشادة.. فما كان من الضابط "نيشان" إلا أن نكزه من كتفه وقال له : "إني اراك رجلاً عاقلاً لا تساهم في الضرب.. فأجابه صلاح: انا رجل مسالم مليش بالمشاكل ما رأيك لو ننهي هذا الخلاف قال صلاح الخلاف قائم هنا فلماذا نذهب لمركز التحقيق لنهيه .. فأصر الضابط أن يأت رزق معه إلى مركز تحقيق البصة في بيت لحم، موعزاً له أن هذا ليس اعتقال وأنه بحاجة ليتحاور معه حوار قصير أقله ساعتين وأعلاه للصباح.
أصعدوه إلى الجيب العسكري ووضعوه بين جنديان، ووضعوا شقيقة بالخلف، لم يخبروه أنه معتقل، دخن سيجارة في الطريق، ولم يكبلوا يداه.. حين وصلوا إلى المركز أمر الضابط الجنود بتكبيل يداه وقدماه، ووضعوا الكيس على رأسه، وأخبروه أنه رهن الاعتقال.
اعتقد رزق أن اعتقاله جاء رداً على ضرب والده لأحد الجنود، قضى رزق اسبوعان في التحقيق دون أن يسألوه شيء عن عملية البصة التي نفذها.. بعد أسبوعين سألوه عن العملية وتفاصيلها فأدرك أن اعتقاله لم يأتٍ عبثاَ ولم يكن نكاية بوالده.
في الأسبوع الثالث وجه له الاتهام بالتدريب على السلاح ضمن تنظيم "فتح"، وتصنيع العبوات الناسفة، كانت مرحلة التحقيق صعبة جداً، حيث استمر التحقيق الصعب لمدة أربعة أشهر ذاق فيها صلاح العديد ويلات التعذيب النفسي والجسدي، ترك هذا التحقيق آثار نفسية وجسدية على صلاح ادرك آثارها في اول لقاء له مع صور حديثه لولده الأصغر رمزي في المحكمة.. ونتيجة لما لاقاه من الألم لم يستطع التعرف عليه، وهذا الأمر كان من اصعب الامور على نفسه
وقال صلاح عن وسائل التحقيق التي تعرض لها: "كنت استيقظ يومياً وأنا مشبوح في الخزائن مكبل اليدان والقدمان، ويداي مشدودتان إلى كرسي صغير في غرفة التعذيب، وأنام على كرسي التعذيب، الشبية بمراسي أطفال الروضة، ذو الظهر المائل والأرجل القصيرة، متعباً مرهقاً وآلام ظهري لا تنهِ، في أقسى مرحلة عشتها بحياتي.. بعد ثلاثة أسابيع سألني المحقق عن زملاء الدراسة في الأردن وإن كان أي منهم قد ساعدني في العملية، ذكرت أسماءهم جميعاً.. ومن بينهم زميلي عمر، وسألني عن علاقتي به .. فقلت : زميل دراسة وصديق، فأصر المحقق هناك علاقة ثالثه لك به فأنكرتها.. بعدها بأسبوعين سألني المحقق عن العمليات التي حدثت في الانتفاضة ببيت لحم المحتلة.. فذكرتها ومن بينها عمليتي في البصة، وهنا ركز المحقق عليها قلت اني لا اذكر تاريخها ولكني اذكر أنها ادت لمقتل جندي او جر جندي، سألني عن مصدر المعلومة فقلت من راديو "اسرائيل" فقال المحقق ومن أين سمعت معلومات أخرى عنها … قلت لا معلومات لدي الناس لا تتحدث بهذا الأمر كونه له طابع أمني".
[caption id="attachment_34102" align="aligncenter" width="560"] المحرر صلاح يجلس مع أفراد عائلته وأبناءه لأول مرة منذ 23 عاما[/caption]المشاعر في الساعات الأخيرة قبل الافراج ومفاجأت الافراج
بكلماتٍ قليلة وتنهيدة قال صلاح : " أنت تتخيل أن كلمة صغيرة من أربع حروف "المؤبد" لا تعني شيء لكنها رغم صغرها وقعها على النفس ثقيل وقوي، الأسير المحكوم بالسجن لعدد من السنوت يعرف متى تنتهي، لكن الأسير المحكوم بالمؤبد.. حتى لو مضت ٥٠ عاماً فإن عداد سنواته الباقية يبقى صفر".
إن اليهودي يعتقد أنه شعب الله المختار، ولذلك يستمر في منح هذه الأحكام المجحفة التي ترفضها الإنسانية جمعاء، لأنه يعتقد أن من استطاع أن "يتطاول" بحسب تعبيره ويقتل "يهودي" فيجب أن يتعفن بالمعتقل.
عن اللحظات الأخيرة في الصفقة قال صلاح أن الاحتلال جمع أفراد الدفعة الثانية مع بعضهم قبل ٤٨ ساعة من الافراج وزعهم على ٦ زنازين في معتقل عوفر قرب رام الله المحتلة، وأجبروهم على لبس زي مصلحة السجون المعروف بالشاباص، وصادروا جميع أمتعتهم بما فيها الدخان ولوازم النظافة الشخصية مما أعادهم إلى أجواء التحقيق مع إختلاف وحيد وهو شعورهم بالسعادة لقربهم من الحرية.
وأضاف : "رغم كل محاولات التنغيص علينا، إلا أن شعور الفرح لم يغادرنا، وأصدقكم القول أنا عشت أنواع الفرح جميعها التي تؤثر في حياة الانسان قبل الأسر، رزق بأطفال، وتخرجت من الجامعة ونجحت في الثانوية، إلا أن نكهة الولادة من جديد عبر نيل الحرية .. أعطاني شعوراً وكأني ولدت في الخمسين من جديد.
"أولى المفاجأت كانت بالنسبة لي الأشخاص الذين حولي خاصة من هم في جيل الثلاثين وأقل .. حتى أكثرهم قرباً مني زوجة إبني رمزي التي سألتها في ثاني يوم .. من أنتِ؟! مع أني سهرت معها أول ليلة ..
الذي يعزيني أن رجالات الخضر قالوا أنه لا لوم علي كونهم هم الأحرار ومن يعيشون وسطهم لا يعرفون معظم هؤلاء الشباب."