ينتهي شهر نوفمبر بهبّة شعبيّة فلسطينيّة حملت عنوان “برافر لن يمرّ”، نظّمها النّاشطون من أجل محاربة مخطّط برافر ومحاولة إيقافه بما
تسنّى من الوسائل الميدانيّة والإلكترونيّة وغيرها، وليست هذه الحملة الأولى فلقد سبقتها تحرّكات أخرى في الأشهر الفائتة.
يتزامن الحدث مع وضع فلسطينيّ معقدّ وخطير فالخريطة أو ما تبقّى منها تنهشها المستوطنات من كلّ جانب كما ينهش القضيّة أو ما تبقّى منها مدّ المفاوضات وجزرها، والاحتلال الصّهيونيّ مغرق في عنجهيّته بصفة يوميّة وبوقاحة متزايدة وصلت به لإصدار مذكرّة اعتقال لطفل في الرّابعة من عمره، إضافة إلى مصادرة الأراضي الزّراعيّة والمداهمات الوحشيّة والقتل، وكلّ ذلك بأبشع ما أمكن لمحتلّ فعله.
مخطّط برافر ليس منفصلاً عن كلّ هذه الممارسات. هو امتداد لسياسة كاملة من السّلب والسّرقة والإقصاء.
ما فعله الاحتلال أيام النّكبة والنّكسة من تهجير لأصحاب الأرض وسلبها منهم بعد إرغامهم على هجرها، يحصل مجّدداً وعلى مرأى من العالم. اليد الصّهيونيّة البشعة هذه المرّة تريد أن تقبض على مساحات شاسعة من النّقب لبناء منشآت عسكريّة. والنّقب أرض فلسطينيّة خالصة، يسكن قُراه بدوٌ فلسطينيّون خالصون، تماماً كفلسطين التّاريخيّة الكاملة، فلسطينيّة خالصة أرضاً وشعباً.
أهل النّقب البسطاء كانوا منذ عقود ولا يزالون يمارسون فعل الصّمود بكلّ ما أكسبتهم الصّحراء من قوّة وعناد وتحدّ ومكابرة. وحدهم، وبغريزة البقاء المكتسبة في الإنسان، والهويّة المتوارثة في الجينات، والتّعلّق بالأرض إلى حدّ أسطوريّ، يجابهون العنصريّة والإهمال والظّلم. ببساطة شبه بديهيّة يرفضون الرّحيل. لو تحدّثت إلى أحدهم، لأخبرك دون أن يفكّر طويلاً “لن أترك أرضي. ليس لأحد الحقّ في إجباري على تركها. هنا عشت وعاش أبي وجدّي. ظروفنا صعبة جدّا، نفتقد إلى أبسط مستلزمات الحياة، لكن يكفيني أن أزرع أرضي وآكل منها”.
مخطّط برافر وحش لأنّ الاحتلال في حدّ ذاته وحشٌ لا يرحم ولا يكتفي بشيء ولا يتوقّف عند أي حدّ. وكلّما تسلّح الفلسطينيّ بعناده المشروع، حشد له المحتلّ كلّ أنواع العتاد العسكريّ والسّياسيّ والإجراميّ. لذلك لا أحد يستطيع أن يضمن نتيجة هذه المعركة.
بقيتُ لفترة طويلة لا أقدر على فهم كيف ضاعت فلسطين، وكنتُ أصبّ اللّوم بلا رحمة على كلّ إنسان عربيّ عاش في تلك الحقبة. والآن، ها هو مشروع برافر يأتي امتدادًا للنّكبة أو هو نسخة جديدة منها، وفي مصطلح “النّكبة” ما يكفي لوصف ما حدث. إنّه ناقوس الخطر الذّي لم يهدأ منذ أكثر من خمس وستّين سنة، جدار الخزّان الذّي يُقرع عالياً ولكن لا يبدو أنّ صداه يصل كلّ أذن وكلّ قلب.
لا يمكن أن تكون هناك طريقة أخرى للتّصدّي لهذا الخطر سوى الاستنفار. استنفار جماعيّ لا يقتصر على النّشطاء وبعض المنظّمات الحقوقيّة. استنفار حكوميّ وشعبيّ فلسطينيّ وعربيّ. رفضٌ فعليّ بعيد عن مجرّد الإدانة والاستنكار. فأن يُحارب العرب، بكلّ الوسائل، من أجل أرض عربيّة ليس حلماً مثاليّاً، أو ربّما ليس على الأمر أن يكون كذلك، بالرّغم من أنّ الواقع السيّء والتّاريخ الأسوأ يجعلان الأمر يبدو بعيد المنال.
حين قرّر العرب “إنقاذ” فلسطين سنة 1948 بعثوا بجيوش لا تحفظ الخارطة ولا تتقن القتال وتحمل أسلحة شحيحة صدئة وتظلّ تنظر إلى المحتلّ لا تقربه حتّى تأتيها الأوامر التّي لم تأت وتسيطر على المدن المحصّنة بسواعد أهلها لتصبح محتلّة في اليوم التّالي.
اليوم، يتعامل السّياسيّون بعاديّة ركيكة مع الخبر.
وعلى جدول زمنيّ ومكانيّ للوقفات الاحتجاجيّة المزمع تنظيمها من قبل النّاشطين في أماكن مختلفة من العالم، لم أجد أكثر من ستّة عواصم عربيّة، ستّة فقط في زمن الثّورات من أجل الحرّية. خطر ببالي على الفور مقطع من إحدى قصص غسّان كنفاني، يسأل فيه أحدهُم صاحبَه عن موقفه من ثورة العراق سنة 1958، فيجيب الأخير متحمّساً “إنّها خطوة جيّدة نحو اللّد”.
لكن كما لم تكن تلك الثّورة خطوة نحو اللّد فعلاً ، فإنّ الثّورات المعاصرة لا تبدو، على المدى القريب، خطوة نحو النّقب.
سيظلّ إذاً أهل النّقب وحيدين في مواجهة تهديد النّكبة الجديدة، ببدائيّة بيوتهم ولباسهم وصلابة انتمائهم، يرفضون التّهجير والعنصريّة البغيضة. هم وحيدون رغم هذا الحراك الشّعبيّ المحتجّ في فلسطين وفي الشّتات، ورغم تنظيم يوم للغضب من أجل النّقب أكثر من مرّة ورغم كلّ الشّعارات والملصقات والهتافات ورغم كلّ الاعتقالات البشعة التّي ستطال المتظاهرين خاصّة في الدّاخل، لأنّ كلّ ذلك لا يكفي وحده، طالما غاب الجُهد الرّسمي والشّعبيّ كاملاً محليّاً وعالميّاً.
لكنّنا سنظلّ نصرخ عالياً “برافر لن يمرّ” “لأنّنا وأرضنا والحقّ أكثريّة”



