لم يعد خافياً على أحد تحسّس "حماس" حجم الأزمة العاصفة بها، بعد أن حزمت أمتعتها، مودعةً دمشق إلى غير رجعة. ظروفٌ استثنائيةٌ جداً تعيشها الحركة هذه الأيام، وإن كانت تحاول حجب ذلك عن أعين الإعلام عبر ارتدائها ثوب "المتماسكة" والقادرة على استجماع قواها مهما ساءت العوامل المحيطة بها.
وهي اليوم في وضعٍ لا تُحسد عليه بالمطلق. تترنّح بين عدة محاور وتحاول الحفاظ على علاقاتها الإقليمية. كلّ ذلك من أجل إنقاذها من الورطة التي وجدت نفسها فيها، فمن كانت تعوّل عليه تم عزله والانقلاب عليه، بفعل "التمرد" المصري، فضلاً عن أنّ من كان يساندها بعد تلقيها الضربات تلو الأخرى من الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مدّها بالعتاد والسلاح وتشريب عناصرها المقاتلين فنون وتكتيكات المواجهة مع العدو، انحسرت علاقتها معه، وإن كانت تبذل قصارى جهدها لجسر الهوة الحاصلة وترميم العلاقات المنشرخة، تمهيداً لإرجاع الدعم المالي والعسكري لها.
محطاتٌ كثيرة خاضتها "حماس" طوال الفترة الماضية تثبت صدقيّة ذلك، فسافرت إلى طهران واجتمعت مع قياداتٍ من حزب الله، وها هي اليوم تحط أقدامها أرض رجب طيب أردوغان، في زيارةٍ قيل إنها تهدف بالدرجة الأولى لبحث آليات تفعيل المصالحة بينها وبين "فتح"، كما تُظهر شكلاً نيتها استعراض تطورات القضية الفلسطينية، وطرق انتشال غزة من مستنقع الحصار المفروض عليها، غير أن القادر على قراءة ما وراء العلاقات التركية الحمساوية يستوعب جيداً مساعي هذه الزيارة؛ أهمها عثور الحركة على ملاذٍ آمن لها، بعد أن وصل التطفّل القطري في طبيعة تحركات وتصريحات مشعل إلى حدٍ يُفقد الحركة أعصابها، ويُشعِرها بانعدام سيطرتها على قراراتها السياسية والعسكرية على حدٍ سواء.
حطت الطائرة التي تقلّ رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، في الأراضي التركية أول من أمس، دون أن تُكشف الأسرار والخبايا الحقيقية لهذه الزيارة التي جاءت بشكل مفاجئ. رافق مشعل في هذه الرحلة كلٌّ من محمد نزال ومحمد نصر وصالح العاروري وعزت الرشق؛ حيث بات واضحاً أن الحركة تتمسّك بأي قشّة هذه الفترة، وتتعلّق قدر الإمكان بتركيا، باعتبارها "السوبر مان" الذي سيقلّها إلى بقعةٍ لا تبخل عليها بالسلاح، ولا تضع شروطاً على المال المقدّم إليها. كلّ ما سبق يحصل رغم ندم "حماس" على خسارتها الحضن السوري- الإيراني، وتسرّعها في الركض وراء قطر التي أظهرت ولاءها لغزة زيفاً، في سعي دؤوب منها لجرّها نحو مربع الخنوع ورفع راية الاستسلام البيضاء.
وتواصلت "شبكة قدس" مع القيادي في حماس، د. صلاح البردويل، وسألته عن طبيعة الزيارة وأهدافها، لكنه لم يردّ سوى بـ "لا علم لديّ بتفاصيل الزيارة. إن وددتِ معرفة أهداف الزيارة، عليكِ التواصل مع أعضاء المكتب السياسي للحركة الذين رافقوا مشعل في رحلته إلى تركيا".
وفي الوقت الذي تهرّبت فيه معظم القيادات من التطرق إلى حقيقة الزيارة ودلالة توقيتها، أكد القيادي الحمساوي باسم نعيم لـ"شبكة قدس" أن هذه الزيارة اعتيادية وروتينية، تهدف إلى بحث آخر المستجدات على الساحة الفلسطينية، وآليات كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، كون تركيا اشترطت ذلك على الاحتلال الإسرائيلي بعد أن تم الاعتذار منها رسمياً على مجزرة أسطول مرمرة.
وقال نعيم: "هذه الزيارة لا تحمل أي مضامين جديدة، وكلّ ما يتردد في الأوساط الإعلامية حول نفور "حماس" من قطر جراء محاصرتها والتضييق عليها عارٍ عن الصحة"، نافياً عزم "حماس" مناقشة تغيير قبلتها من الدوحة إلى أنقرة كمقر أساسي لرئيس وأعضاء مكتبها السياسي. كما شدّد نعيم على أن "حماس" حركة مقاومة لا تحصر نفسها في بقعة معينة، وبالتالي لا يُشترط لقيادتها المكوث في منطقةٍ واحدةٍ بعينها.
وبخصوص الملف السوري، قال نعيم "من الطبيعي التطرق إلى الأزمة السورية، باعتبار حماس تنظيماً يتأثر تلقائياً بكل متغيرات المنطقة"، مؤكداً في الوقت ذاته على عدم تدخل الحركة بالشأن السوري بالمطلق، والإيمان فقط بالحوار السوري السوري بعيداً عن التدخلات العربية والأجنبية. وأضاف: "حماس لا تفتّش بالمطلق عن أحضان باردة وأخرى دافئة، ونؤكد أن لا تغيير في السياسة القطرية، فقطر ما تزال ملتزمة أشدّ التزام بالقضية الفلسطينية، ويستحيل أن تدعو حماس للتنازل أو المساومة أو مغادرة أراضيها".
فيما رجحّت مصادر مقربة من "حماس" لـ"شبكة قدس" نيّة حماس توديع الدوحة في وقت قريب، جراء الضغط القطري الكبير عليها، مؤكدةً بحث هذه المسألة في زيارة مشعل لتركيا، والتركيز على احتمالية انتقال جزء من قيادات "حماس" للاستقرار في أنقرة بهذه المرحلة الحرجة للغاية. وأوضحت المصادر أن "حماس" تتمسك بتركيا بهذا التوقيت باعتبارها طوقاً للنجاة من أزماتها المتلاحقة، خاصةً المالية، مؤكدةً أن تركيا لن تخذلها وستمدها بالدعم اللازم حتى انفراج الأزمة المالية.
واستبعد المحلل السياسي طلال عوكل، في حديثه مع "شبكة قدس"، فتح "حماس" الملف السوري من جديد مع تركيا، قائلاً: "حماس تبذل قصارى جهدها لإعادة ترميم علاقاتها مع إيران، لذا هي تعلم جيداً أن التطرق إلى هذا الشأن مع تركيا سيشكل استفزازاً لإيران، وسيعيق طريق المصالحة معها".
ورجّح عوكل أن يكون هدف الزيارة متمثّلاً في تنشيط الدور التركي في إنجاز المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، مؤكداً في الوقت ذاته أن الحركة تشعر بضيقٍ عميق إثر تواجدها في قطر، وليس بعيداً أن تدرس مع تركيا كل الخيارات المتاحة أمامها لدقّ ساعة الرحيل من الدوحة. وأوضح عوكل أن تركيا تشكّل حاضنة قوية لجماعة الإخوان المسلمين، قائلاً: "لم تتوانَ تركيا عن عقد أكثر من مؤتمر للجماعة على أراضيها، ومن الطبيعي إنقاذ كل الحركات المنضوية تحتها".