تأملت طويلاً في كثرة تداول الناس أدق التفاصيل بل أتفهها حول معيشة بعضهم والتدخل في هذه التفاصيل ومن ثم إطلاق الأحكام بالإيجاب أو بالسلب عليها ببساطة متناهية، ولم أجد لذلك تفسيراً أعمق من أن هذا ناتج عن الفراغ الذي نعيشه وقلة الإنجازات في مجال الإنتاج المحلي القيّم، ووجدت أن هذا التدخل المتبادل بين الناس في المحيط وبهذا الشكل الركيك هو ليس من مميزات الترابط الاجتماعي! بل إنه من أبرز السمات التي تشير إلى أمة مستهلكة لكل شيء حتى الفكر، وغير منتجة لشيء أهم من الغذاء لتنشغل به.
فلو كان أهل بلدتك طيارين أو مخترعين مثلاً، لتحدثوا عن طراز آخر طائرة أقلعت من مطار البلدة، وتداولوا تفاصيل آخر اختراع عُلقت صورته في مبنى مجلس بلدية القرية، بدلاً من أن ينشغل بك الناس إنشاغلاً عميقاً يسرفون عليه الكثير من التركيز والتدقيق والتضحية بوقتهم؛ ليصلوا أخيرا إلى معرفة ماذا أكلت اليوم، وإلى أين تخرج، وكيف هي مشيتك (سريعة أم بطيئة)، وما هو أكثر لون ترتديه من ملابس، وكم هي الفترة التي تفصل كل مرة تزور بها صالون الحلاقة عن المرة التي تليها، هل هي شهر أم أسبوع أم أقل! وما نوع هاتفك النقال الذي تملك، وكم هي المسافة التي تقطعها سيارتك على اللتر الواحد من البنزين، وهل يوجد لديك بنات في قائمة الأصدقاء على "فيس بوك" وإن وُجدنَ فما هي طبيعة العلاقة بينكم، والأهم من ذلك يجب أن يعرفوا عن آخر مشكلة عائلية دارت بداخل بيتك، ولا تقلق عليهم بهذا الجانب إن لم يعرفوا حيثيات المشكلة كاملة وعلموا فقط بذيول ما يجري بين جدران بيتك! فما إن يمسكوا بطرف الخيط لا ضير عليهم بعدها؛ لأنهم سيكملون القصة على خاطرهم وهواهم تطبيقاً لنظرية الإشاعة والقلقلة.
هذه بعض من الأمثلة على الكثير الكثير من الأمور التي تشغل وقت من يحيطون بنا وتلهب فضولهم شغفا على معرفتها ليتداولوها أو ليتشايعوها فيما بينهم. ذلك كله -حسب قناعتي وأسفي- هو محاولات للاستعاضة عن عدم امتلاك مادة حديث عن أشياء ذات قيمة في مجتمعاتنا.
والأدهى من ذلك كله أنك حين تجلس مع أحدهم وتسمع رأيه حول موضوع تدخل الناس ببعضهم، وتقوم لتقعد بجانب آخر فتسمعه، ومن ثم تغير جلستك لتنصت إلى آخر عن نفس الموضوع، تجد أن كل "الناس" متضايقون ومشمئزون من كثرة كلام "الناس"، فكأن من يتحدث نسي أنه من كوكب هؤلاء الناس الذين يثيرون غضبه، ذلك حتى تصل في النهاية إلى قناعة، هي أنّ الكثيرين يفتقرون إلى مرآة في بيوتهم، ليس لتصفيف الشعر!! وإنما لمشاهدة أنفسهم بإمعان ومن ثم الإكتشاف بأنهم من الناس.