شبكة قدس الإخبارية

مفهوم التحرير

٢١٣

 

أحمد درويش
اللغة التجريدية لكل مفهوم لفظ يقابله، ونحن حين ننظر للمفهوم أو التجريد الذهني نستطيع فهم جوهره قبل أن يشتبك مع الواقع مباشرة. ولغة تجريد المفاهيم مهمة لكوننا نستطيع إعادة تعريفها ابتداء دون تأثير الواقع عليها. ونحن كأصحاب أرض محتلة، فرض علينا الاحتلال التعاطي مع مفهوم التحرير بطريقة معينة وشبه ثابتة، وبهذا أصبح الواقع مُحدّداً للمفهوم قلما نستطيع أن نتعامل معه بأشكال وصور مختلفة. وفي عرض الصورة التجريدية أولا للمفهوم نستطيع أن نعيد رسم التصور وطريقة التعاطي مع المفهوم بشيء من التوسع، وبشيء من الإبداع في إسقاط التجريدي على الواقعي. التحرير كفكرة مجردة: عندما نحاول تجريد مفهوم التحرير سنجد المعنى يقودنا إلى: الخلو من القيد، وإن كان بالمعنى المقصود سنجد الصيغة: محاولة إزالة كل ما من شأنه تعطيل حرية الإنسان من قول أو فعل، فهو حر نفسه، قادر على تقرير مصيره دون فرض أو إكراه. سنجد مما سبق أن كلمة (القيد) في التعريف هي الجوهر، وبه ستتعدد المعاني والاستخدامات، فالقيد قد يكون فكري، اجتماعي، نفسي، تاريخي، ايدلوجي، فكرة مقدسة، مُسلّمة موهومة ...هناك قيود لا تنتهي، ستعمل عملها في من يتبنى أي تعريف أو تصور لمواجهة الاستعمار الصهيوني. التحرير ..محاولة إعادة تعريف: إن الحديث عن التحرير يبدو قديما، إلا أن الفكرة تختلف من شخص لآخر، ومن حزب لآخر، من خلال ما تحمله الفكرة من معانٍ وتصورات، ومن منظومة قيمية يتشكل منها معنى التحرير الذي نقصده. حين نتحدث عن التحرير فإننا نقصد: تحرير العقول من مسلمات لازمته طوال عقود طويلة، شكّلت نظرياته في عقله، وصاغت عمله على الأرض، فهي بذلك أدت إلى منتوج، يبدو حتى اللحظة هذا المنتوج ناقصا، عقيما، مشلولا عن التحرير، ويحتاج هو إلى من يحرره! نفصد بالتحرير تحرير النفوس من عبودية المحتل، الرابض على نفوسهم لعقود طويلة، والذي يمنعهم من الشعور بروح التحرير وما يمكن أن تحدثه من معجزة بشرية خالدة. نقصد بالتحرير، تحرير الجسد من الآم الانتظار السلبي، والقعود الطويل، والدخول في منظومة العمل الجاد الذي يخدم فكرة التحرير، ويجعل من طاقاته الكامنة، مشاريع تحرر تؤسس لمرحلة بناء واعدة. إن فكرة التحرير في جوهرها تعبر عن مكنون القوة لدى الشعب. تحرير قوة الشعب لخدمة تحريره. فالمقصود بالتحرير: تحرير قوة الشعوب من خلال إعادة اكتشاف معاني القوة المتعددة التي يحملها، ومن ثم توجيهها نحو القضاء على المشروع الاستعماري. وإعادة اكتشاف القوة تتطلب جهداً كبيراً، يكون بداية في إعادة تعريف القوة واكتشاف أنواع القوة التي يملكها الشعب، وكيف سيوظفها في سبيل مشروعه التحرري. التحرير .. جوهر الفكرة عندما نتحدث عن التحرير يتبادر للذهن مباشرة أن المستهدف هو المحتل بإطلاقية الكلمة المتداولة، ولا شك بأن المحتل هو أحد أهداف ما نتحدث عنه هنا، ولكننا لا نقصده هو فقط، بل نقصد جميع الأطراف التي لها دور في الصراع القائم، فلغة التحرير لا تستثني أحدا، وهو مطلب لكل أطراف الصراع، مهما اختلفت أهدافهم وتضادت. إن التحرير كما قلنا هو فعل عقلي ونفسي وجسدي، فما نقصده بالتحريرسيصوغ التصورات التي ينطلق منها طرفا الصراع. وحتى نبسط المسألة ، نقول أن فكرة التحرير بمعناها الخفي عبارة عن نظام قناعات، وكل إنسان يمتلك هذا النظام الذي يُعبّر عن ما يحتويه عقله من أفكار وتصورات حول نفسه وحول الأخر. ومن هنا تأتي أهمية تناول قضية قناعات الإنسان قبل المرور على مفهوم التحرير من المحتل، لأنها هي من تحدد شكله وصورته ومن ثم شكل تنزيله على الأرض. والنقطة المهمة الأخرى التي لا بد من تناولها أن التحرير لا يعبر عن سؤال (كيف) أي وسائل التحرير فقط، وإنما يعبر عن سؤال (ماذا ) والتي من خلالها نستطيع أن نحدد على وجه الدقة معنى التحرير المطلوب الذي نتحدث عنه في قضية فلسطين. فالتحرير تصّور قبل أن يكون إستراتيجية وفلسفة قبل أن يكون تكتيكات. المسيري والغوص لجوهر فكرة التحرير: يُعبّر المسيري عن ما يعتقد أنه معنى لنهاية دولة إسرائيل أو بلغة المقال معنى تحرير فلسطين فيقول: "نهاية إسرائيل لا تعني القضاء على الإسرائيليين وإنما تعني إزالة الإطار العنصري الصهيوني الذي تدور داخله الدولة الصهيونية، فنهاية اسرائيل تعني من منظوري نهاية العنصرية الاسرائيلية وعودة الفلسطينيين لديارهم، وتحول المستوطنين الصهاينة الى مواطنين في دولة متعددة الاثنيات والعقائد، إنه في واقع الامر محاولة لتطبيع الدولة الصهيونية، فهي كيان شاذ غير طبيعي، فهي دولة ليهود العالم كلهم لا لمواطنيها. والمطلوب هو أن تصبح دولة طبيعية، أن تصبح دولة لمواطنيها مما يعني أن تصبح دولة غير عنصرية، أي غير صهيونية". وسواء اتفقنا أم اختلفنا معه فيما قال، سنجد أن نظرته للتحرير تتوافق مع ما يُطرح اليوم من عدة جوانب، وتختلف في جوانب أخرى. فمن ناحية الاتفاق سنجد أن الأطروحة تحافظ على مبدأ أن الأرض لأصحابها، وأنه لا تفريط في أي جزء منها، وأن الحقوق ثابتة لا مفر من استرجاعها، ولكنها تختلف في كيفية التعاطي مع هذا المحتل، فهو ليس كتلة واحدة صماء مصبوغة بصبغة أيدلوجية واحدة، بل طيف واسع قابل بعضه للتأثير على الأخر بفعل مقاومة أصحاب الأرض. ومنه قد تنتج مقاربة أشبه ما تكون بما حصل في جنوب أفريقيا، حيث استطاعت ضربات المقاومة وصمودها أن تُرضخ المحتل لشروط أصحاب الأرض، وفي نفس الوقت عدم الذهاب معه لنقطة اللاعودة النهائية أو بتعبير اليوم في فلسطين إزالة الوجود الإسرائيلي أو اليهودي من فلسطين عبر رميه في الماء. وبهذا استطاع مانديلا ومن معه تحرير الأرض من العنصرية التي استمرت لأربعة قرون، من خلال عودة الحقوق والحريات الكاملة لأهل الأرض، ومن خلال محاسبة المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت في حق أصحاب الأرض، ومن خلال التعايش مع من يرغب ويرضى بشروط الوطن الجديد الحر. أننا بحاجة اليوم لفك قيود العقل عن المعاني والتصورات السائدة، ومحاولة اختبارها على الواقع بما يتحمله ويتقبله، فالمحتل استعمر جزءاً من الأرض فيما نسميه النكبة سنة 1948، واستكمله في 1967 فيما عُرف بالنكسة ..فهو بلغة الأرض والتخطيط لم ينجز مشروعه مرّة واحدة لاعتبارات كثيرة حينها، ورغم إصراره على الاستعمار ودعم الغرب له إلى أن انجازه لم يكن بتلك الطريقة التي يعتمدها الكثير منا في الحسم بين النظرية والتطبيق أو الحلم وتحقيقه. ولا أنسى أحلام ذلك المقاتل الشرس الذي تعرفت عليه، حين قال لي صديقه هذا فلان المسئول عن مقتل 120 إسرائيلي، فسألته أثناء الحديث وبعد كل هذه البطولات كيف ترى مفهوم التحرير السائد اليوم وإمكانية تحقيقه، فقال: لن يستقيم لنا الأمر بالمفهوم الذي كنا نعتقد!