لقاء أجراه قسام معدي مع البطريرك ميشيل صباح، ونشر في جريدة الأيام الفلسطينية.
البطريرك صباح: العربي الذي يدخل جيش الاحتلال الإسرائيلي يجازف بهويته العربية ، ويرضى بمرتبة الأجير ... الطائفية خارجة عن تعاليم كل الأديان، وعلى المسيحيين والمسلمين بذل جهود خاصة لترسيخ الأخوة.
"اهدموا كنائسنا بدلاً من بيوت أبناء شعبنا. اهدموا كنائسنا وسنجد أماكن نصلي فيها لأجلنا ولأجلكم. أما الناس فاتركوهم في بيوتهم" ... هكذا كتب البطريرك ميشيل صباح، بطريرك القدس للاتين آنذاك، مخاطباً الاحتلال، في رسالته الراعوية بمناسبة زمن الصوم المسيحي عام 2001. ترجمت هذه الرسالة لعشرات اللغات، ووصلت إلى الآلاف عبر العالم، لتقول لهم إن المسيحيين الفلسطينيين هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ويناضلون من أجل الحرية والاستقلال، وإنهم مستعدون لدفع ثمن انتمائهم، في الوقت الذي كانت فيه الكنائس تستهدف أسوة بالمساجد، في سياق إحدى أعنف عمليات البطش والقمع الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي وصلت أوجها بحصار الرئيس عرفات في مقر المقاطعة، وحصار أكثر من 200 فلسطيني في كنيسة المهد في بيت لحم.
هذا الراعي المسيحي، الفلسطيني ابن الناصرة، وأول بطريرك عربي فلسطيني للقدس منذ عام 1987، كان على الدوام أحد أقوى الأصوات المرتفعة في وجه تحييد المسيحيين في الصراع ضد الاحتلال. تاريخه مليء بالمواقف الحاسمة التي دفعته أكثر من مرة إلى المواجهة المباشرة مع الاحتلال، خاصة على الحواجز والمعابر. على الرغم من انتهاء خدمته على رأس البطريركية اللاتينية عام 2008، إلا أنه لا يزال أحد أكثر الشخصيات المسيحية تأثيراً بمواقفه ونشاطه الوطني. ترأس مؤخراً، وبتكليف من مجلس الأساقفة الكاثوليك في فلسطين، لجنة العدل والسلام، والتي أصدرت وثيقة، تعبر عن موقف مسيحي كاثوليكي موحد من محاولات الاحتلال لتجنيد المسيحيين، من أبناء الشعب الفلسطيني في مناطق 1948 في جيشه.
التقينا غبطة البطريرك صباح في مقر إقامته في الطيبة، شمال رام الله. حدثنا عن المسيحيين الفلسطينيين، وعن محاولات تحييدهم. عن فلسطينيي الـ 48، وعن محاولات سلب وعيهم القومي والوطني، وصهرهم في المجتمع الإسرائيلي. حدثنا عن الطائفية، والفرق بينها وبين الدين، وعن دور القيم الدينية في بناء الوعي وصقل الانتماء. نورد اللقاء فيما يلي:
* ما هو هدف الاحتلال من محاولات تجنيد الفلسطينيين المسيحيين في جيشه؟
- إن للجيش الإسرائيلي وظيفتين. وظيفة قتالية، متمثلة في ممارسة الاحتلال والعدوان على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، ومواجهة الجيوش العربية والمقاومة. أما الوظيفة الثانية فهي وظيفة اجتماعية، تتمثل في صهر كافة مكونات المجتمع الإسرائيلي غير المتجانسة في بوتقة واحدة، صهيونية الهوية والفكر. ولهذا اندماج العربي في الجيش الإسرائيلي يعني سلبه وعيه القومي. وهذا ما يراد للمواطنين العرب في إسرائيل: أن يتخلوا عن عروبتهم ويندمجوا في مجتمع صهيوني بعيد عن قيمهم العربية والدينية، ويصبح العربي كائِنًا معزولًا عن بيئته المباشرة وتقاليده وعن تاريخه وتراثه، ويصبح فردا مستهلكا في مجتمع استهلاكي، يبحث عن عيش سهل ولا قضية له فيه، لا قضية حاضرة ولا ماضي يسترشد به، ولا مستقبل يفكر فيه بجدية. والجيش وسيلة مهمة ورئيسية لهذا التحوُّل والذوبان في شخصية الإنسان وهو لا يدري.
* هل يعني هذا، غبطتك، أن الصهيونية فيها مكان لغير اليهودي وللعربي تحديداً؟
- كلا. الصهيونية مبنية على العمل في سبيل عنصر واحد، هو العنصر اليهودي، ولهذا يقال فيها إنها عنصرية. إن العربي الذي يدخل المنظومة الصهيونية فإنه يدخلها دخول الأجير، وقد وجدت هذه الظاهرة في التاريخ وما زالت توجد أي "الجنود الغرباء الأجراء" في جيش ما، مقابل أجر يتقاضونه. ومن ثم الجندي العربي في الجيش الإسرائيلي هو في مرتبة الأجير، وليس بمرتبة ابن البيت، مهما فعل. ولن تتحقق له المساواة مع ابن البيت اليهودي. خير دليل على ذلك هو أن بعض العرب الذين خدموا طوعاً في الجيش الإسرائيلي لا يزالون يعانون من نفس التمييز العنصري ضدهم، على المستوى الجماعي، في كل مناحي الحياة، من المسكن، إلى التعليم، إلى التنمية، إلى مصادرة الأراضي. ونرى هذا بوضوح في المخططات الأخيرة لتهجير الآلاف من البدو العرب الفلسطينيين في النقب وسلب أراضيهم.
ثم، علينا أن نفهم أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع غربي، مادي، استهلاكي، فرداني. الإنسان الإسرائيلي متحرر في شخصيته المادية من كل ما هو روحي. إن دمج العربي في هذا المجتمع، الذي هو قائم على حساب وجوده القومي، يعني بالضرورة أن يتجرد من انتمائه، ووعيه، وإيمانه، والقيم الحضارية التي تشكل هويته الثقافية وتربيته. إن الدخول في الجيش الإسرائيلي لا يحقق أي مساواة للعربي. فمقابل بعض المنفعة المادية المباشرة (فرصة دراسة أو عمل...)، يتخلى العربي، واعيا أو غير واع، عن قيمه الوطنية والدينية، هائماً في بيئة استهلاكية مادية فردية. فالعربي مهدد في روحه، وهويته، وضميره.
* ماذا عن الظروف الاجتماعية التي تدفع ببعض الفلسطينيين من الداخل للانضمام إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي؟
- هناك ظروف اجتماعية واقتصادية ناتجة عن التمييز العنصري الصهيوني ضد العرب. وهي نفسها للجميع. والخدمة في الجيش لم تحسن الظروف الاجتماعية ولا الاقتصادية ولا السياسية للعرب في إسرائيل على المستوى الجماعي.
إن مواجهة الظروف الاجتماعية للفلسطينيين في الداخل هي مسؤولية القيادات السياسية والروحية لهم. نحن ككنائس مسيحية علينا مسؤولية، ونؤديها بأقصى ما نستطيع من خلال تعزيز صمود أبناء شعبنا، من مسلمين ومسيحيين، بما نوفره من خدمات اجتماعية، خاصة في التعليم والصحة والإسكان، ومن خلال تنمية روح التعايش والوحدة بين المسيحيين والمسلمين، وثقافة التمسك والصمود في الأرض، في مدارسنا المسيحية. المساجد والمسؤولون الروحيون الإسلاميون عليهم مسؤولية أيضاً، ولكن مسؤوليتنا كقيادات روحية تبقى في حدود المجال الاجتماعي والتربوي. لكن مسؤولية التوعية السياسية تقع بالدرجة الأولى على الأحزاب الفلسطينية في الداخل، بجميع توجهاتها. هي من عليها أن تنمي الوعي الوطني والسياسي لأبناء الشعب الفلسطيني في الداخل، وتنمية الوعي السياسي الصحيح لديهم. للأسف، الكثير من هذه الأحزاب لا تقوم بدورها، وتتحول إلى طوائف متناحرة، الأمر الذي يضعف المجتمع العربي ككل.
• بمناسبة الحديث عن الطوائف. تحدثت وثيقة لجنة العدل والسلام عن الطائفية والدين. ما الفرق بينهما؟ وما دورهما في قضية تجنيد المسيحيين في جيش الاحتلال؟
- الدين هو أمر سامي سمو الله. هو نهج حياة قائم على عبادة الله من جهة، وتكريم ومحبة كل خلق الله من جهة أخرى. الطائفية هي بالأحرى مجموعة بشرية منغلقة على ذاتها، تدافع عن مصالحها ومصالح أفرادها، والدفاع عن المصالح يصبح مخاصمة للآخر الذي يُرَى مثل عدوّ فعلي أو محتمل. ومن هنا عندما نقول "روح طائفية" نقول روح مخاصمة وتفتيت بين الناس. فالطائفة أمر بشري يقزم الدين ويحجمه في حدود الفهم البشري الضيق. الطائفية قائمة على الإنغلاق على الذات، بين أبناء العقيدة الواحدة، في وجه سائر أبناء الله الذين يتبعون عقائدَ أخرى. الدين، الذي هو عبادة لله وتكريمه ومحبته في خلقه، جميع خلقه، يعني انفتاحاً على الآخر وقبولاً له كما هو. أما الطائفية فهي رفض للآخر والانغلاق على الذات في وجه الآخر. الدين هو عامل محبة وتسامح، أما الطائفية فعامل فتنة وصراع.
التركيز على تجنيد المسيحيين دون غيرهم، هو لعب الاحتلال على وتر الطائفية بقصد تقسيم أبناء الشعب الواحد، الأمر الذي يؤدي إلى إثارة الفتن وانعدام الأمن بين صفوف الفلسطينيين في الداخل اجتماعياً وروحياً، بهدف تقوية عملية تآكل داخلية وواقع خلل في الوجود نفسه، ومن ثم يتوجه البعض إلى البحث عن سبل للدفاع عن النفس مثل الدخول في الجيش الإسرائيلي.
• هناك، في داخل الكنيسة، من يقومون بدور سلبي، معاكس للرسالة السمحة التي تحدثت عنها، ويتعاونون مع محاولات تجنيد المسيحيين في جيش الاحتلال، ويساهمون في الشحن الطائفي. ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟
- بالأحرى هناك إجماع مسيحي عربي بصورة عامة على رفض تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي. وهناك بعض الحالات الخارجة عن هذا الإجماع، وهي تبقى معزولة وفردية. هذا من ناحية موضوع التجنيد. والاحتلال يعمل على استغلال هذه الحالات الفردية. فقد استقبل نتنياهو الأب جبرائيل نداف من أجل بحث سبل تجنيد المسيحيين. الظاهرة غريبة، وتدل على عدم رؤية الأمور رؤية صحيحة لدى السيد نتنياهو ومستشاريه: فهو يرى في فرد لا يمثل إلا نفسه ممثلا لكل المسيحيين. الخطأ واضح، إن أرادوا إخلاص المواطن العربي، فليست هذه هي الطريق. الطريق هي أولا حل القضية الفلسطينية من جذورها. وثانيا المساواة التامة في الحقوق والواجبات. فرؤيتهم غير صحيحة أو هي مقصودة للفتنة، لكنها لن تنجح في التأثير، إلا على أقلية من الناس.
أما بالنسبة إلى الشحن الطائفي، فدعني أقول وبكل وضوح: إن المسيحية دين محبة، لا مجال فيها للطائفية. فالإنجيل يأمر بمحبة القريب حب المرء لذاته، دون أن يحدد من هو القريب، ودون أن يقول إنه الذي يشاركك العقيدة. بل عندما طلب اليهود من السيد المسيح أن يحدد من هو القريب، جاء لهم بمثل السامري (أي المخالف لهم في العقيدة والمعادي لهم بالقومية). أي إن المسيحي الحقيقي لا يعادي غيره. بل يقبل الآخر على اختلافه، حتى لو كان بعيدًا وعدوًّا. فكيف إن كان هذا الآخر هو ابن الشعب نفسه، والقضية نفسها؟ ببساطة أقول، إن أي صوت مسيحي، رسمي أو غير رسمي، يدعو إلى الطائفية، وإلى الانغلاق على الذات، ورفض الآخر، فهو خارج عن قيم المسيحية وعن تعاليم الإنجيل.
كذلك فإننا نعرف جيداً أن الحالات الفردية الموجودة أيضًا في الوسط الإسلامي، لا تعبر عن المجموع، ولا حتى عن الأكثرية. إنما على المسلمين بذل جهد خاص لترسيخ الأخوّة في هذه الأيام، بالرغم من ظواهر التطرف المتنامية في النفوس. فالإسلام، وكل دين هو من طبيعته دين محبة، وقد عشنا معا لقرون وسنبقى.
ما هي رسالتك للشباب الفلسطيني؟
- رسالتي للشباب الفلسطيني عامةً، وللشباب الفلسطيني في الداخل خاصة هي: حافظوا على ذاتكم وهويتكم وتربيتكم الأصيلة، ولا تفقدوها في زخم المجتمع المادي الاستهلاكي الأناني. إن الحياة رسالة، فيها تحديات وصعوبات على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجماعي. والإنسان المؤمن يجب ألّا يهرب من التحديات، بل عليه أن يواجهها. منها واجبات على المستوى الفردي، ومنها على مستوى المجتمع والوطن، وهما غير متناقضين، بل مرتبطان بعضهما ببعض. فالحياة لم تعطَ لي كي أعيشها وحدي، بل هي رسالة في سبيل عالم أفضل لي وللكثيرين غيري. رسالة تضاء بقيم روحية وقيم وطنية. قيم روحية مبنية على محبة الله وعبادته، ومحبة وتكريم جميع خلقه وأبنائه. وقيم وطنية مبنية على معرفة الذات وجذورها، وعدم الهروب منها. من فلسطينيتك وعروبتك. وإن كان هناك صعاب، فهي ليست سبباً للهروب، بل لوضع اليد على المحراث والعمل لإصلاح المجتمع، وبناء الوطن، والغد الأفضل.