الساعة الحادية عشر صباحاً دخلتُ المسجد فإذا بالشهيد مسجى على محراب الإمام، و الكل في حالة ترقب، بين عيون دامعة و قلوب حزينة، محمود الطيطي من مخيم الفوار، الشاب ذو الثلاثة و عشرين ربيعاً، حامل لواء الأسرى على كتفه، دمه يتحدث عن معاناته، صبر و احتسب،
ناضل في ميدان الاحتلال و نزل بساحاته، فأقلقهم صوته و كلماته و عباراته و شعلة نشاطه، فتلقفته يد غادرة حين دخلت المخيم معسكرة في حماه، نزل مدافعاً بحجارة ليلقى رصاصة .. رصاصة أخيرة أنهت حياته الفانية في هذه الدنيا و انطلقت روحه في حوصلة طير خضر ترفرف في السماء..
دماءك تغطي وجهك الشريف ، اقتربت منه كي أقبله قبل وداع ، لم أجد مكانا فارغا من الدم إلا جبهته ، قبلته المرة الأولى فسرت قشعريرة في جسدي ، الثانية و أنا أتحسس شعره فإذا بوجه وضاء يشع نورا، الثالثة لم أتمالك نفسي أمامه، لأنه شهيد.
صلينا عليه صلاة الجنازة، ثم انطلقنا إلى المقبرة ..
رأيت جموعاً من الناس، اختلطت أصواتهم، بين صادق و كاذب، فالمشهد يجب استغلاله سياسيا ليبقى الرمز قريبا من الذاكرة، هنا الأضواء و العدسات التي ترى بعين واحدة، هنا الاستغلال البصري للمشاهد، موقف يجب أن لا يفوت على أصحاب المصالح و الذوات ..
نظرت إلى أزقة المخيم .. ممتلئة، رفعت بصري إلى أعلى، فرأيت عجوزا هرمة تلوح بيدها للشهيد كأنها تخاطبه، ثم خفضت يدها لتمسح دمعتها، مررنا بنساء المخيم المتجمعات في كل زقاق، ينظرن إلى الشهيد وأعينهن الحمراء باكية .. ثم سمعت صوت الزغاريد، بالقرب من بيت محمود، ثم رأيت الحلوى تلقى علينا من الطابق الثاني ..
حناجر الشباب صادحة، بكل ما تتمناه أذناك، مرة يعلو التكبير و مرة فلسطين و مرة بالشهيد و الإنتقام ..
وصلنا المقبرة، رأيت أصحاب البدلات السوداء سبقونا ليعتلوا المشهد، رأيت القبر و الدم و التراب، بدأ الشيخ في الدعاء، مات الشهيد، و دفن الشهيد!
بقي أن أذكر أنه مما جاء في تقرير الهيئة المستقلة الشهري لشهر شباط 2013 عن الشهيد الطيطي: "تلقت الهيئة خلال شهر شباط 2013 شكوى من المواطن محمود عادل فارس الطيطي من مخيم الفوار في محافظة الخليل والبالغ من العمر 23 عاماً، حيث أفاد فيها أن جهاز الأمن الوقائي في الخليل قام باحتجاز هويته الشخصية وبطاقته الجامعية منذ شهر نيسان 2012 بعد استدعائه لأسباب سياسية وما زالت الهوية والبطاقة الجامعية لدى الجهاز ولم يتم تسليمها حتى تاريخ إعداد هذا التقرير. وقد قامت الهيئة بمتابعة جهاز الأمن الوقائي حول الموضوع، وهي بصدد إعداد رسالة خطية للحصول على رد رسمي كونها تلقت الشكوى في أواخر شهر شباط 2013".
إذن سلام عليك يوم ولدت يا محمود، و سلام عليك يوم شهادتك، و سلام عليك يوم تبعث على ما مت عليه مجاهدا في سبيله.
أخي سوف تبكي عليك العيون .. وتسأل عنك دموع المئين
فإن جف دمعي سيبكي الغمام ,,, يرصع قبرك بالياسمين
أخي ستنير الدماء الظلام *** وتزرعه رحمة وسلام
فيا سحب غطي شعاع الهلال *** سيشرق بعده بدر التمام