لأنك فقط فلسطينيّ الجنسية، مكتوبٌ عليك أن تعيش اللجوء مرةً واثنتين وثلاث، ومطلوبٌ منك كذلك أن تتقبل فكرة الترحيل بكل أريحية، فتتأقلم معها- رغماً عن أنفك- دون أن تحاول إسقاط هذه الفكرة، فيُمنع أن تتفوه مثلاً بحقك البسيط في الحياة "الفلسطينيون يريدون إسقاط غرف الترحيل"، فما دمت فلسطينياً فأنت متهمٌ بمسؤوليتك عن خرق ثقب الأوزون، وكل جرائم الدنيا وخرابها.
إنها ليست بقصة جديدة، فتلك الغرف المخصصة للفلسطينيين في مطار القاهرة، لم تكن صنيعة هذا اليوم، بل هي محفورة في أذهان الفلسطينيين منذ مسافات زمنية بعيدة، غير آبهةٍ بوجعهم اللامتناهي، فماتت أنظمةٌ ونُفخ الروح في أخرى، وهي ما تزال على حالها تأبى أن يقبض أحدٌ على روحها الكاره لكل ما هو فلسطيني.
غرفٌ تعيد ذاكرة الفلسطيني إلى مشاهد سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث الأسرّة المكونة من طابقين والمساحة الضيقة جداً (3*4.5 م) التي لا تستوعب إلا عدداً محدوداً من الأرواح البشرية، والطعام الشبيه بطعام الكلب غير اللائق أصلاً بالآدمي، وحمامات تفوح منها كل نتانة وقذارة هذه الدنيا العاجزة عن حماية الفلسطينيين من أنياب التحريض ضدهم.
بهذه الغرف تكدّس الفلسطينيون فوق بعضهم البعض في الفترة الأخيرة- التي شهدت عزل الرئيس محمد مرسي، وحرباً بين طرفين يريان في نفسيهما النموذج الأصلح والأصدق لحكم مصر- دون أن يعرفوا سبب حجزهم اللاإنساني والتعامل الدوني معهم.
وتمكنت "شبكة قدس" من الوصول إلى أحد الشباب الذين عاشوا في الأيام الفائتة بمرارةٍ لا حدّ لها في غرف الترحيل، خاصةً بعد إغلاق الجيش المصري معبر رفح الفاصل بين قطاع غزة ومصر، وتكدس عدد من الشباب في هذه الغرف، في محاولةٍ من الشبكة لنقل صوتهم إلى العالم في ظل تقصير السفارة الفلسطينية في مصر.
يقول الشاب الفلسطيني عمر منصور لـ"شبكة قدس": "غرفة الترحيل بالزبط زي زريبة الحيوانات، شو بدي أحكيلك لأحكيلك، أنا كرهت مصر وحلفت ما أرجعها تاني"، موضحاً أنه أول من أعلن إضرابه عن الطعام والدخول للحمام، للضغط على الجهات الأمنية المصرية من أجل تحقيق مطلبه المتمثل في إرجاعه إلى غزة برفقة زملائه فوراً.
ولم يكن يعلم منصور أن رحلة الترويح عن نفسه التي بدأ مشوارها في الشهر الماضي، ستنتهي بهذه الصورة المجحفة بحق الفلسطينيين، فيقول واصفاً غرف الترحيل: "الريحة بتسطل فيها، ما قدرنا نقعد فيها ولا دقيقة، كنا طول الوقت ملحوشين بالممر، بس والله مع الوقت بدينا هيك نتأقلم مع الريحة".
ويضيف: "ما بتقدر تنام على السراير حتى، الفرشات خمال كتير، ولا بتقدر تقعد على شوية الكراسي اللي حاطينهم بالغرفة لأنهم حديد ومن أول ما بتقعد عليهم بتمزع بنطلونك، وكمان الحمامات ما فيها إلا حنفيتين بتنزل المية منها على الأرض مباشرة وكل أواعيك بتتبلل عالأخير".
وقال منصور إن الجهات الأمنية المصرية في المطار قامت بسحب جوازات كل الموجودين في غرفتي الترحيل، فضلاً عن هواتفهم النقالة وكاميراتهم وحواسيبهم الشخصية وأي وسائل اتصال أخرى تمكنهم من التواصل مع أهاليهم لطمأنتهم عن أوضاعهم، مما اضطرهم إلى دفع رشاوى لبعض العاملين البسطاء في المطار للسماح لهم باستخدام هواتفهم النقالة، وذلك بعد دفع كل واحد منهم 50 جنيهاً مقابل 5 دقائق اتصال.
وكان منصور ورفاقه الفلسطينيون ممنوعين من اجتياز أبواب غرف الترحيل، وسط تشديد أمني كبير، الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء إلى الآذن لشراء طعام صالح للنفس البشرية، نظراً لعدم اعتراف الجهات المصرية بالمطار إلا بوجبات "العيش والحلاوة" التي تقدمها صباحَ ومساءَ كل يوم لهم في غرف الترحيل.
ولم تتوقف معاناة الفلسطينيين عند هذا الحد، بل زجّ أمن المطار ببعض من الشباب المصري الذي حاول الهرب إلى إيطاليا في غرف الترحيل بجوارهم، رغم أن بعضهم مجرمون و"بلطجية" ومنتمون لعصابات "المافيا"، وكأن الفلسطيني أصبح شبيهاً بأولئك المجرمين ومداناً دوماً.
أما عن السفارة الفلسطينية بمصر فحدّث ولا حرج، فهي لم تعترف بوجود أي فلسطيني في بادئ الأمر بغرف الترحيل، حتى اضطرت بعد ذلك إلى الإفصاح عن الحقيقة بعد أن نشرت بعض وسائل الإعلام صوراً من داخل الغرف، فضلاً عن أن علاقتها بالموجودين بالغرف تلخّصت في وجبة غداء قدمتها لهم قبل أيام.
وأوضح منصور الذي وصل مطار القاهرة، عائداً من الأردن، يوم الخميس الماضي أي قبل إغلاق معبر رفح بيوم واحد فقط، أن السفارة الفلسطينية بالقاهرة أجبرته ورفاقه على دفع 150 جنيهاً مصرياً للحافلة التي أقلتهم من المطار إلى معبر رفح، رغم أن تأمين الحافلة من مسؤولية السفارة، وعليها التكفّل بهذه النفقات، مؤكداً عدم قبول السفارة إرجاع أموالهم إلى جيوبهم، بعد أن اضطروا للرجوع بخفي حنين مجدداً إلى ذاك العذاب المتمثل في غرف الترحيل إثر إغلاق المعبر.
وبيّن منصور أن بعضاً من الفلسطينيين تم وضعهم على قائمة "البلاك ليست" بعد أن فجّروا غضبهم بوجه الجهات المصرية في المطار جراء سوء معاملتهم لهم، مؤكداً عجز أي شخص عن تصوّر مشاهد غرف الترحيل طالما لم يعش تفاصيلها التي لم يكن وجهها إلا العنوان الآخر للموت.
وأصر منصور على الإضراب عن الطعام وعدم الدخول إلى الحمام لمدة 3 أيام، حتى قامت الجهات المصرية بالمطار بتهديده وحثه على فك إضرابه، إلا أنه بقي متعنتاً ومتمسكاً في مطلبه حتى قررت تلك الجهات بترحيله إلى الأردن قسراً.
كما أمرته بدفع ثمن تذكرة السفر المقدرة بـ 280 دولاراً أمريكياً، أو التوقيع على سند دين لصالح الخطوط الجوية المصرية، لكن منصور رفض الخيارين ما أغضب تلك الجهات ووعدته بالعقوبة حال دخوله الأراضي المصرية مجدداً.
وبعد هذه الرحلة الشاقة، حطت قدما منصور المملكة الأردنية دون أن تمتلك جيبه مالاً كافياً يُسّهل له طريق العودة إلى غزة، حيث نفقت أمواله ورفاقه الفلسطينيين في غرف الترحيل، خاصةً أن معظم عائلاتهم مستورة الحال تعجز عن تحويل بعض الأموال إليهم.
هذه القصة من بين آلاف القصص التي تعذّر على "شبكة قدس" التواصل مع أصحابها، لعدم امتلاكهم هواتفهم النقالة في غرفة الترحيل، بينما تمكنت من التواصل مع من رحّلتهم الجهات المصرية إلى اليمن وتونس والمغرب.
فالصحفي العالق معاذ العامودي قال لـ"شبكة قدس": "تم احتجاز ما يقارب 26 فلسطينياً داخل غرف الترحيل، بعد إغلاق معبر رفح بحجة عدم الاستقرار الأمني في مصر"، موضحاً أنه حاول العودة ثانيةً إلى اليمن، لكن محاولاته باءت بالفشل، الأمر الذي دفعه للتواصل مع جهات تونسية لدخول أراضيها، نظراً لسهولة الحصول على تأشيرتها، حتى تحقق ذلك.
ويعاني العامودي أوضاعاً مالية صعبة، ولم يتبَقَ معه سوى أربعين ديناراً تونسياً، كما أخبر "شبكة قدس" أن زوجته تضطر للاستدانة من أهلها في هذه الفترة العصيبة، محمّلاً السفارة الفلسطينية المسؤولية الكبرى عن هذا التهميش الجليّ بحق أبنائها.
منذ أعوامٍ خلت، تشرب الطفل الفلسطيني قبل الشاب، والشاب قبل العجوز معنى غرف الترحيل، حتى باتت دروساً يحفظ الجميع حروفها عن ظهر قلب، بانتظار أن يكون لهم "معبر" لا ينتظرون خبراً حول فتحه أو إغلاقه!