شبكة قدس الإخبارية

هل اقتربت تسوية غزة على الطريقة الأمريكية؟

٢١٣

 

photo_٢٠٢٥-٠٦-٢٧_٢٣-٤١-٥٩
أحمد الطناني

يتجدد الحديث بشأن اقتراب التوصل إلى اتفاق تهدئة في قطاع غزة، وسط تصاعد لافت في المؤشرات السياسية والتصريحات العلنية التي توحي بأن المشهد يقترب من نقطة انعطاف. ومن البيت الأبيض إلى "تل أبيب"، تتوالى التصريحات التي تتحدث عن قرب "استعادة الأسرى"، ما يعكس تبلور نضج سياسي إسرائيلي–أمريكي مشترك بات يرى أن استمرار الحرب لم يَعُد ضرورةً مُلحَّة، وأن الوقت قد حان لترجمة الإنجازات الميدانية إلى ترتيبات سياسية واستراتيجية تكرِّس وقائع جديدةً في قطاع غزة.

ومع ذلك، يبقى التفاؤل الحذر سيد الموقف، لا سيما أن ما يُطبخ في الكواليس الأمريكية–الإسرائيلية غالبًا ما يُصاغ وفق احتياجات الاحتلال وحده، ويُعرَض على الفلسطينيين كأمر واقع. وفي ظل غياب مفاوضات فعلية، ووجود ضغوط متصاعدة لإنتاج قبول قسري بأية صيغة تُطرَح، تَدخل هذه المرحلةُ من النقاش حول التهدئة في سياقٍ حساس يتجاوز وقف إطلاق النار نحو إعادة تشكيل مستقبل غزة ودورها الوطني، في ظل توازن قوى مختل، وبيئة إقليمية ودولية تتيح للاحتلال فرض شروطه بأدوات متعددة.

مؤشرات علنية.. فهل تعكس واقعًا فعليًّا؟

تشير سلسلة من المؤشرات المتتالية، سواءٌ في التصريحات السياسية أو التسريبات الإعلامية، إلى إمكانية حقيقية لبلوغ تهدئة قريبة في غزة. فقد صرَّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مؤخرًا بأن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في القطاع "بات قريبًا"، مرجِّحًا إمكانية إنجازه "في خلال الأسبوع المقبل".

وفي السياق ذاته، ألمح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى أن "المكاسب المتحققة في النزاع مع إيران ستُسهم في تعزيز موقف إسرائيل في حربها بغزة، بما في ذلك قضية استعادة الأسرى"، في إشارة واضحة إلى ارتباط مسارَي الحربين واتساق أهدافهما ضمن استراتيجية إقليمية موحَّدة.

اللافت أن هذه التصريحات تتقاطع مع تمهيد واضح في الخطاب السياسي الإسرائيلي، إذ بدأت عدة أصوات داخل الائتلاف الحاكم وخارجه بالترويج لأهمية التوصل إلى اتفاق قريب، ما يعكس على الأرجح تحوُّلًا في تقدير الموقف داخل المؤسسة الإسرائيلية تجاه كلفة استمرار الحرب وجدوى الوصول إلى مخرج تفاوضي.

ومن زاوية المصلحة السياسية، يبدو أن اللحظة الراهنة تشكِّل فرصةً مثاليةً لنتنياهو شخصيًّا لإبرام اتفاق تهدئة، يسمح له بتقديم سردية "الانتصارات المركَّبة" أمام جمهوره، في توقيت يتزامن مع ارتفاع لافت في شعبيته داخل استطلاعات الرأي. ومن شأن مشهد استعادة الأسرى، في حال تحقَّق، أن يُقدَّم كدليل على نجاح خيار "الضغط العسكري المتواصل" الذي تبنَّاه منذ السابع من أكتوبر/تشرن الأول 2023، ما يعزز موقعه داخليًّا قبل الانتخابات القادمة.

تتقاطع هذه السياقات مع ما جرى تداوله في أبريل/نيسان الماضي، حين كُشف عن تحديد رئيس حكومة الاحتلال سقفًا زمنيًّا للحرب في غزة ينتهي في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو الأمر الذي أكده وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، أحد أبرز المقربين من نتنياهو والمبعوث الأساسي لملف التفاوض. 

كما أشار رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، إلى أن نهاية العام الجاري تمثِّل حدًّا أقصى لعمليات غزة. وسبق لرئيس الأركان السابق أن دعا إلى تقصير أمد الحرب، عادًّا أنه ينبغي أن يُخصَّص العام القادم لما وصفه بـ"الاستقرار الأمني"، وهو ما كرَّره مؤخرًا في حديثه عن اقتراب اكتمال أهداف عملية "عربات جدعون"، وضرورة تقديم خيارات واضحة أمام المستوى السياسي.

وبعد التصعيد الأخير مع إيران، بات بإمكان نتنياهو تسويق صورة "نصر شامل"، من خلال الإيحاء بأن المرحلة الراهنة تُمثِّل لحظة اكتمال لما يُسمى "هندسة شرق أوسط جديد"، تُتوَّج بإعادة الأسرى، وتدشين مشاريع سياسية واقتصادية في الإقليم. وهذا ما ينسجم مع التسريبات الأمريكية التي تحدثت عن توجُّهٍ نحو صفقة شاملة، تشمل توسيع دائرة التطبيع مع عدد من الدول العربية والإسلامية، في إطار ترتيبات ما بعد الحرب.

المسارات التفاوضية: غياب التفاوض الفعلي وحضور ترتيبات ما قبل العرض

على الرغم من الزخم الإعلامي والتصريحات السياسية المتفائلة بقرب التهدئة، فإن الواقع التفاوضي يشير إلى غياب مفاوضات فعلية ومباشرة في هذه المرحلة. فالمسار التفاوضي، في جوهره، ينقسم حاليًّا إلى خطين متوازيين:

فأما المسار الأول فيتمثل بمفاوضات أمريكية–إسرائيلية جارية، تُعنى بصياغة شكل الصفقة التي تعتزم واشنطن طرحها على الأطراف. ويبدو أن هذه المشاورات تتركَّز على بلورة عرض يحقق الاحتياجات الإسرائيلية بدرجة كاملة، خاصةً فيما يتعلق بإصرار حكومة الاحتلال على فرض السيطرة الأمنية الشاملة على قطاع غزة، وضمان تحييده عن المشهد الوطني الفلسطيني، ووضع ترتيبات إدارية داخل القطاع تُدار من قبل طرف محلي متعاون، يُنفذ السياسات المطلوبة دون اشتباك سياسي مع مشروع الاحتلال.

وأما المسار الثاني، فهو مسار أكثر انفتاحًا وأقل رسمية، ويشمل تفاعلات متعددة بين مفاوضي حركة "حماس" وقوى المقاومة من جهة، والوسطاء الرسميين وغير الرسميين من جهة أخرى، من بينهم قنوات اتصال مثل بشارة بحبح وآخرين. 

وتركِّز هذه الاتصالات على مناقشة أوَّلية لبعض الصيغ التي قد تُطرَح لاحقًا من قبل الولايات المتحدة، في محاولة لتهيئة الأرضية لحسم البنود المتوافق عليها مسبقًا، وترك القضايا الإشكالية للتأثير غير المباشر، سواءٌ من خلال الضغط السياسي أو عبر استغلال الإنهاك الشعبي لإنتاج بيئة نفسية ضاغطة على المفاوض الفلسطيني تدفعه في اتجاه القبول بخيارات مجتزأة أو مفروضة.

من المرجَّح أن يُستكمَل عرض الصفقة الأمريكية من خلال التنسيق القائم بين المبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف، والوزير في حكومة الاحتلال المقرب من نتنياهو، رون ديرمر، الذي يقود الوفد التفاوضي ويُنتظر أن يزور واشنطن قريبًا بهدف حسم التفاصيل مع الإدارة الأمريكية. 

ويبدو أن واشنطن تُعِدُّ لتقديم الصفقة على أنها إنجاز سياسي للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عبر تسويق صورة "فرض الاتفاق"، وربما ربط إعلان بنوده بالتزامن مع زيارة يجري التحضير لها لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى البيت الأبيض، ليُطرَح هذا التقدم كجزء من استراتيجية أمريكية لاستعادة الاستقرار و"فرض السلام عبر القوة" في المنطقة.

الرهان الاستراتيجي: قتال على النتائج لا على استمرار الحرب

من الناحية الاستراتيجية، بات واضحًا أن الحرب في قطاع غزة، من حيث المبدأ، قد استنفدت ذاتها. لم يَعُد الهدف استمرار القتال لأجل القتال، بل باتت المرحلة الحالية –منذ بدء عملية "عربات جدعون" وحتى الآن– بمثابة اشتباك مركَّب على نتائج الحرب وحدود مخرجاتها السياسية والاستراتيجية. 

وفي هذا السياق، تسعى حكومة الاحتلال إلى تثبيت وقائع ميدانية وإدارية داخل قطاع غزة تضمن تحييده لعقود قادمة عن أي دور وطني فلسطيني، وتدفع بأهله نحو مسارات تهجير قسري، تُغلَّف بشعارات "العودة الطوعية" لتجميل واقع الإخلاء الجماعي.

وفقًا لهذا التصور، يهدف الاحتلال إلى تحقيق عدة أهداف مركزية:

  • تقليص مساحة قطاع غزة عمليًّا من خلال تثبيت وجود مباشر في المناطق العازلة، وتحويلها إلى قواعد عسكرية وتحصينات دائمة داخل أراضي القطاع.

  • فرض إدارة محلية متعاونة تعمل بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة، وتُدار ضمن معايير تضمن الأمن الإسرائيلي المطلق.

  • إبقاء الاحتلال على وجود يثبِّت شكلًا من أشكال السيطرة الأمنية المباشرة في مناطق داخل قطاع غزة، خاصةً تلك المرتبطة بممرات السيادة، مثل "محور فيلادلفيا" ومعبر رفح.

  • حرية حركة أمنية مفتوحة، بما يشمل حق تنفيذ ضربات جوية في أي وقت، واستهداف من تشاء مؤسسة الاحتلال الأمنية استهدافه دون قيد أو شرط.

كما أن إحدى أبرز أدوات هذه الهندسة الجديدة يتمثل بمحاولة تقويض عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وتصفيتها تدريجيًّا، لصالح التشكيل البديل الذي يحمل اسم "مؤسسة غزة"، وهو كيان ذو طابع أمني–إغاثي، جرى هندسته ليكون الذراع التنفيذي الأمريكي–الإسرائيلي للتعامل مع سكان قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب.

في المقابل، تشتبك المقاومة الفلسطينية مع هذه المخططات بوصفها جزءًا من المعركة الاستراتيجية الأعمق. فهي تُدرك أن حجم الدمار قد تجاوَزَ إمكانية إنكاره، لكن الخطر الحقيقي يكمن في محاولات الاحتلال فرض وقائع مستدامة تُعيد هندسة مستقبل قطاع غزة سياسيًّا وأمنيًّا. وفي مقابلها تتمسك المقاومة بمجموعةِ محدِّدات:

  • الانسحاب الكامل من أراضي قطاع غزة، وفق جدول متسلسل ومتزامن ومربوط بعملية إطلاق سراح الأسرى وصفقات التبادل.

  • تسليم إدارة غزة إلى تشكيل حكومي-إداري مهني ومستقل متوافق عليه وطنيًّا وليس بمعزل عن المؤسسة الفلسطينية الرسمية.

  • آلية فعَّالة وحقيقة للمساعدات، تستند إلى البروتوكول الإنساني المتفق عليه في اتفاق يناير/كانون الثاني 2025، والسماح للمؤسسات الأممية وفي مقدمتها وكالة الغوث "أونروا" بالعمل مع أهالي قطاع غزة.

  • رؤية واضحة وعملية للإعمار، ترتكز بدرجة أساسية على ما ورد في الخطة المصرية التي تم تبنِّيها عربيًّا.

وفي هذا السياق، تدرك المقاومة أن الشرط الأساس لإفشال هذا المشروع لا يقتصر على المقاومة العسكرية وحدها، بل يتطلب أيضًا فرض آليات حقيقية وفعالة لإغاثة ودعم صمود أهالي قطاع غزة، بوصفها الجدار الواقي أمام تصاعد موجات الهجرة القسرية التي يجري التحضير لها بشكل ممنهج، بهدف إفراغ القطاع من سكانه وإعادة تشكيل هويته ووظيفته وفقًا للمصالح الإسرائيلية.

إذن، هل نحن فعلًا أمام صفقة وشيكة؟

على الرغم من كثافة المؤشرات الظاهرة، فإن الحديث عن اقتراب الصفقة ما يزال سابقًا لأوانه. ومن المبكر جدًّا بث التفاؤل أو تعليق آمال واسعة، خصوصًا في أوساط الأهالي المنهكين في قطاع غزة، الذين خبروا مرارًا كيف تُطبَخ الصفقات في واشنطن على قاعدة تلبية الحاجة الإسرائيلية، وتجاهُل المطالب الفلسطينية أو الالتفاف عليها. 

وبالنظر إلى ما يجري تداوله من مضامين الصفقة المحتملة، فإن الأيام القادمة قد تكون الأصعب على المفاوض الفلسطيني، وسط ضغوط دولية وإقليمية هائلة لدفعه نحو القبول بأية صيغة تُطرَح، بغض النظر عن عدالتها أو مدى تلبيتها للحد الأدنى من الحقوق الوطنية.

وفي مقابل هذه الضغوط، يصبح من الضروري إطلاق جهد موازٍ وداعم للموقف الفلسطيني، يقوم على تحريك الرأي العام العالمي، وتحديدًا الغربي، للضغط على الإدارة الأمريكية من أجل تعديل صيغة الصفقة بما يضمن الحدَّ الأدنى من المطالب الفلسطينية العادلة. 

ويتطلب ذلك حملةً إعلاميةً ودبلوماسيةً وشعبيةً متكاملة، تُحاكي زخم التضامن الذي تصاعد في خلال الشهور الأولى من الحرب، وتعيد توجيه الأنظار إلى جوهر القضية: إنهاء العدوان، ورفع الحصار، وضمان الحقوق الأساسية لشعب يقاتِل من أجل بقائه.