خاص - شبكة قدس الإخبارية: للعام الثاني على التوالي، يحل يوم العمال العالمي على سكان قطاع غزة وهم يعيشون واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخهم، إذ تحوّل اليوم الذي يُفترض أن يكون مناسبة لتكريم العمل والعمال إلى يوم يرمز إلى البطالة والفقر والانهيار الاقتصادي شبه الكامل.
توقفت مهن كثيرة نتيجة الحرب على قطاع غزة، فلا "سباك ولا نجار ولا حداد " حيث لا توجد بيوت بعد تدمير نحو 70% من مباني قطاع غزة، كما ظهرت مهن جديدة "بائع معلبات" و "مرمم خيام" و "مصلح نقود" وغيرها، فالحال تبدل ولم يعد للمناسبات يوما مميزا للاحتفاء فكل الأيام باتت لدى الغزيين متشابهة "قصف وتدمير ونزوح وجوع".
ويواجه العمال ظروف كارثية، لاسيما في ظل تدمير النظام الصحي ومرافق البنية التحية والقطاعات الأساسية المختلفة، مثل، قطاع الإسكان، والتعليم، وقطاع الصناعة والزراعة، وتقليص المساعدات ونقص مياه الشرب، وانتشار الأوبئة والأمراض، وتدمير الآلاف من الوحدات السكنية واستمرار أوامر النزوح القسري عن مناطق سكناهم وسط حالة غير مسبوقة من الفقر وارتفاع غير مسبوق في مستويات الأسعار، وزيادة انعدام الأمن الغذائي وشيوع الجوع بين العمال الذين فقدوا أي مصدر للدخل.
عمال بدون عمل!
في سوق الصحابة الذي أنشأ في الحرب لبيع القليل من الخضراوات إن توفرت، والكثير من المعلبات، يقف المهندس "أحمد شعبان" أمام بسطة صغيرة لبيع الحبوب "العدس والفاصولياء" والقليل من اللحوم المعلبة، يقول:" لم يعد يناديني أحد بالبشمهندس أصبحت "بسطة أبو محمد" في البداية كنت أشعر بالخجل لكن اليوم اعمل بالموجود ، فلا أجيد حرفة وعملي متوقف في ظل الدمار الهائل".
وماذا عن يوم العمال؟ سألته مراسلة "شبكة قدس الإخبارية"، ضحك متهكما على الوضع ليجيب: أي عمال، لا حرف ولا مهن بعد الحرب، الجميع إما بائع بسطة أو صاحب حرفة جديدة ابتدعها خلال الحرب، كما جاري بائع الحطب والأوراق بعدما كان يعمل سكرتيرا في مدرسة.
وبالقرب من جامعة القدس المفتوحة وتحديدا على دوار "القوقا" الذي تحول إلى مخيم يضم عوائل تضررت بيوتهم في المنطقة وشمال القطاع.
أمام الخيمة يجلس "أبو يحيى السيد" – 43 عاما- ينتظر أحد النازحين مناديا عليه ليصلح الخيمة، أو يشعل الحطب للطهي مقابل شواكل قليلة لا تسد رمق صغاره.
في السابق كان يعمل في البناء، وكانت يوميته تتجاوز الخمسين شيكلا فهو "معلم صنعة"، يحكي بحسرة: كل البيوت التي عملت على بناءها أشعر أنها ملك لي، غالبيتها دمرت (..) أحلم كثيرا بالعودة للبناء من جديد، لكن كل شيء تبدل".
ويضيف بحسرة وضيق:" أعمل مقابل شواكل قليلة بالكاد تكفي لشراء المعلبات، بعدما ينفد ما أحصل عليه في بعض الأحيان من مساعدات إغاثية".
ويذكر أنه في السابق كان الحد الأدني للأجور نحو 1200 شيكل أي ما يعادل 350 دولار، اليوم شواكل قليلة مقابل عمل مرهق وأسعار فلكية في السوق كما يصف، لافتا إلى أنه لا يوجد "عمل ولا عمال" حتى يتذكرهم أحد في يومهم تحت الإبادة.
أما "تسنيم" وتعمل خياطة المخيم، بأدوات بسيطة "مقص وإبرة وخيط" تصلح الثياب للأطفال والكبار مقابل بضعة شواكل تساند زوجها في إعالة أسرتها.
تحكي أنها في السابق كانت تعمل في محل ملابس، واليوم تصلح الملابس القديمة بطريقة بدائية لعدم وجود كهرباء للماكينة الخاصة، لكنها تحاول المساعدة ولو بشيء بسيط، موضحة أنه لا يوجد ملابس في السوق وإن تواجدت بسعر باهظ أو "بالة" وسعرها مرتفع أيضا.
وتتذكر عملها قبل الحرب على غزة، أنها كانت تحصل على راتب يناسب حجم تعبها، لكن اليوم أعباء كثيرة مقابل عائد مادي ضعيف وإمكانيات أضعف، متمنية أن تعود الحياة السابقة كما كانت ويعيش الجميع حياة كريمة دون تعب وإرهاق خاصة وأنها كحال الكثير من العاملات اللواتي سئمن الوقوف في طوابير التكايا والبحث عن لقمة العيش.
خبير اقتصادي: الحرب أحدثت تغيرات هيكلية في سوق العمل
يعقب أحمد أبو قمر المختص في الشأن الاقتصادي، أنه تحت وطأة الحرب وفي ظل استمرار إغلاق المعابر، باتت الأسر عاجزة عن إعالة نفسها، خصوصًا أن العمالة اليومية كانت دائمًا هي الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة أي صدمات – سواء كانت حروبًا، أزمات صحية كجائحة كورونا، أو حتى إغلاقات اقتصادية، موضحا أن هؤلاء العمال ببساطة لا يملكون أي حماية، وإذا لم يعملوا في يومهم، لا يجدون ما يأكلونه.
ويشير أبو قمر خلال حديثه لـ"قدس الإخبارية" إلى أن فئة محدودة من عمال المياومة حاولت التكيف مع الواقع الجديد من خلال تعلم مهارات بديلة أو الدخول في مهن جديدة، مثل إصلاح العملات، تقديم خدمات لوجستية، أو العمل عن بُعد رغم تحديات الكهرباء والإنترنت، مؤكدا أن هذه المحاولات لا تزال محدودة ولا يمكن التعويل عليها لتغيير الصورة العامة.
ويُلفت إلى أن الفئة التي لا تزال تعمل تعاني من رواتب متدنية جدًا لا تتماشى مع ارتفاع الأسعار الجنوني، حيث تضاعفت أسعار بعض المواد الأساسية بنسبة وصلت إلى 700%، بل وتجاوزت 1000% في حالات كالطحين والوقود، ما يجعل الأجور الحالية غير كافية حتى لتأمين الاحتياجات الأساسية.
يؤكد أن الحرب الأخيرة على غزة تسببت في تغيرات هيكلية عميقة في بنية سوق العمل، كان أبرزها الارتفاع الكبير في نسبة البطالة، والتي قفزت من 45% قبل الحرب إلى نحو 85% اليوم، ما يعني أن أعداد العاطلين عن العمل تضاعفت، في وقتٍ لم تعد فيه كثير من المهن موجودة أصلًا، بينما ظهرت محاولات خجولة لاستحداث أعمال جديدة.
ويضيف أبو قمر أن تداعيات الحرب لم تتوقف عند فقدان الوظائف، بل امتدت إلى ارتفاع معدلات الفقر بشكل حاد، ما دفع نحو 93% من سكان القطاع للاعتماد على المساعدات الإنسانية، مقارنة بـ60% فقط قبل الحرب. "هذا مؤشر خطير على عمق الكارثة الاقتصادية، ويكشف عن انهيار منظومة الدخل الذاتي للأسر الغزية"، كما يوضح.
ويرى أبو قمر أن تحسين الواقع المعيشي في غزة يبدأ من تبني سياسات اقتصادية تنموية تستهدف خلق وظائف جديدة، تعيد دوران عجلة الاقتصاد وتقلل من الاعتماد على المساعدات، لأن كل انخفاض في نسبة البطالة يعني انخفاضًا في الفقر وزيادة في الدخل والحركة الشرائية.
ويؤكد أن البطالة ليست مجرد رقم، بل هي المحرك الرئيسي لباقي المؤشرات الاقتصادية، فإن ارتفعت تعطّلت باقي القطاعات، وإن انخفضت تعافت المنظومة تدريجيًا.
ويختم بالقول إن فتح المعابر والسماح بدخول المواد الخام وإعادة تشغيل المصانع من شأنه أن يسهم في تقليص العجز في الميزان التجاري، وتحريك قطاع الصادرات، ما يُعيد الأمل لفئات واسعة من العمال بالعودة إلى حياتهم الطبيعية، ولو بشكل تدريجي.